محمد عبد الكريم الخطابي – صفحات من التاريخ – الصفحة السابعة

نقدم لكم في حلقة اليوم من صفحات من التاريخ قصة الأمير المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي “سيدي موحند” المعروف بأسد الريف حيث نتحدث عن نشأته، حياته وجهاده الطويل

[faharasbio]

هو الأمير المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي المعروف ب “سيدي موحند (بالامازيغية)” والملقب ب “أسد الريف”.

ولد محمد عبد الكريم الخطابي في بلدة “أجدير” في الريف المغربي بين “مليلة” و”تطوان” سنة 1301 هـ/1883م ودرس القرآن والعربية، و نشأ في أسرة كريمة تحت كنف والده الذي كان يتزعم قبيلة بني ورياغل.

وذهب لإكمال دراسته، إلى “مليلة” وجامعة القرويين ب “فاس”، وعاد منها ليُعيَّن نائباً للقاضي في “مليلة”، ثم قاضياً، ثم صار أقضى القضاة (قاضي القضاة) وعمره آنذاك لم يتجاوز الثالثة والثلاثين، وهذا دليل على نبوغ مبكر، وكتب في الصحف، ودرس في بعض المدارس، وكان أبوه أميراً على أمازيغ (بربر) الريف المغربي، وجاهد مع أبيه في الحرب العالمية الأولى مع الدولة العثمانية، وذلك سنة 1334هـ/1915م. نكما معا هذه السلسلة من صفحات من التاريخ، وقد وصلنا إلى الصفحة السابعة. تابعونا

اعتقال محمد عبد الكريم الخطابي

اعتقله الإسبان الذين كانت بأيديهم “سبتة” و”مليلة” وهي إلى الآن بأيديهم، لمدة 4 أشهر ليضغطوا على أبيه حتى يكف عن الجهاد، وذلك أن الإسبان كانوا يريدون أن يتوسعوا، ويخرجوا من “سبتة” و”مليلة” ليحتلوا باقي مناطق المغرب الأقصى الشمالية؛ لكنهم لما حققوا مع الابن فاجأهم بألوان من العزة والثبات، وأخبرهم أنه لا مناص له، ولا لأبيه إلا أن يقاتلوا مع الدولة العثمانية، فاضطروا لسجنه؛ لكنه تدلى بحبل من السجن ليفر؛ إلا أن الحبل كان قصيراً فتأرجح في الهواء فرمى بنفسه، فانكسرت ساقه، وأغمي عليه من الألم، فعثر عليه الإسبان وأعادوه إلى السجن، حيث مكث أربعة أشهر، ثم أطلقوا سراحه.

بداية المعارك:

قتل والده في معركة مع الإسبان سنة 1920م وقيل مات مسموماً، وابتدأ الأمير محمد عبد الكريم الخطابي سلسلة المعارك مع الإسبان وكان معه أخوه الذي نُفي معه فيما بعد، وعمه عبد السلام، حيث ابتدأهم بمناوشات أسفرت عن انتصاره وطرد الإسبان من حاميتين مهمتين؛ بل كانت إحداهما ذات موقع استراتيجي فريد، فغضب الإسبان وأرسلوا له جيشاً من ستين ألف جندي وطائرات وعتاد ضخم؛ لكنهم حذروا القائد العام للحملة الجنرال سلفستري من قوة محمد عبد الكريم الخطابي وبأسه، فاستهزأ قائلًا: “أنا ذاهب لأمسح حذائي في الريف”.

وإسبانيا آنذاك ثالث قوة أوروبية، وهي وسائر حليفاتها الأوروبيات قد انتصرت في الحرب العالمية الأولى، مما جعل زهوها وغرورها يتضاعف، ولم تصادف هذه القوات في زحفها في بلاد الريف أي مقاومة، واعتقد الجنرال أن الأمر سهل، وأعماه غروره عن أن رجال محمد عبد الكريم الخطابي يعملون على استدراج قواته داخل المناطق الجبلية المرتفعة، واستمرت القوات الإسبانية في التقدم وتحقيق انتصارات صغيرة؛ حتى احتلت مدينة أنوال في 15 من مايو 1921م .

بعد ذلك بدأ رجال محمد عبد الكريم الخطابي هجومهم على كل المواقع التي احتلها الإسبان، وحاصروا هذه المواقع حصارًا شديدًا، وفشل الجنرال في رد الهجوم، أو مساعدة المواقع المحاصرة، وأصبحت قواته الرئيسة، التي جمعها في “أنوال” مهددة، بعد أن حاصرها وطوقها رجال الريف، وحين حاول الانسحاب بقواته اصطدم بقوات محمد عبد الكريم الخطابي في 22 يوليو 1921م في معركة حاسمة عُرفت بمعركة أنوال.

وكانت الهزيمة الساحقة للقوات الإسبانية؛ حيث أبيد معظم الجيش المحتل، وأقر الإسبان بأنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل يتقدمهم الجنرال “سلفستر”، ووقع في الأسر 570 أسيرًا، وغنم المجاهدون عشرين ألف بندقية، وأربعمائة رشاش، ومليون طلقة، وطائرتين، وتفرق القتلى على مساحة خمسة أميال، وما إن ذاع خبر انتصار محمد عبد الكريم الخطابي ورجاله في معركة (أنوال)، حتى هبت قبائل الريف تطارد الإسبان أينما وُجدوا، ولم يمض أسبوع إلا وقد انتصر الريف عليهم، وأصبح وجود الإسبان مقتصرًا على مدينة “تطوان” وبعض الحصون في منطقة الجبالة.

إمارة إسلامية

أقام محمد عبد الكريم الخطابي إمارة إسلامية مساحتها 20.000 كم2، وسكانها قرابة نصف المليون وطبق فيها أحكام الإسلام، ووطد دعائم الأمن، وأنشأ المدارس والمستشفيات، وأرسل البعثات إلى أوروبا، وقلل جداً من حوادث الثأر بين القبائل حتى أن الرجل كان يلقى قاتل أبيه وأخيه في المعارك مع إسبانيا فلا يمسه بسوء؛ وذلك لأن محمد عبد الكريم الخطابي عمل مجلس شورى لإدارة الإمارة من ثمانين من رجال القبائل وأوكل إليه إدارة الأموال الجزيلة التي حصل عليها من فداء أسرى الإسبان، ومن الزكاة الشرعية التي يجمعها من رعيته، وكان يحاول إفهام رؤساء القبائل مؤامرات إسبانيا وفرنسا، وأنهما سبب كبير من أسباب تجهيل المغاربة، وهذا حديث يسمعه أولئك للمرة الأولى، فإنهم كانوا مشغولين بالثارات والقتال من أجل سفاسف الأمور ودناياها، فتركوا الثأر بهذه الطريقة.

نظام تجنيد فريد

عمل محمد عبد الكريم الخطابي نظام تجنيد فريد، حيث أوجب على كل الذكور من سن 16 إلى 55 أن يتجندوا كل شهر خمسة عشر يوماً ويعودوا إلى وظائفهم وأهليهم خمسة عشر يوماً، وهكذا دواليك كل شهر، فضمن وجود الجند، وضمن أيضاً حسن سير الإمارة واطمئنان الناس على أهليهم وأولادهم. هذا كله عمله الخطابي في وقت كان المسلمون فيه في غاية من الضعف والهوان ليس بعده هوان، لكنه استطاع وهو قاض شرعي أن يفاجئ الإسبان بطرق عجيبة في القتال، فكان يحفر الخنادق، ويباغتهم في جبال الريف حتى أن “هوشي منه” القائد والمقاوم الفيتنامي الشيوعي المشهور الذي قاوم أمريكا مقاومة ضارية في (الستينيات وأوائل السبعينيات الميلادية) كان يقول إنه استفاد من طريقة محمد عبد الكريم الخطابي في حرب العصابات.

تحالف أوروبا ضد محمد عبد الكريم الخطابي:

توجه الإسبان سنة 1924م إلى “أجدير” عاصمة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي في مائة ألف وحاصروه ثلاثة أسابيع، فأظهر محمد عبد الكريم الخطابي، ومن معه بطولات رائعة ونادرة في وقت عزت فيه البطولة وانعدم النصر أمام الغرب في العصر الحديث، واستطاع الخطابي ومن معه أن يقتلوا من الإسبان أربعة آلاف في أقل الروايات، واضطر الجيش الإسباني للانسحاب ذليلاً إلى مدريد.

فوجئ الفرنسيون بانتصار الخطابي على الإسبان، وكانوا يتمنون غير ذلك، كما فجعوا بانسحاب القوات الإسبانية من إقليم جبالة كله؛ ولذا قرروا التدخل في القتال ضد الخطابي ولمصلحة الإسبان، وكانت فرنسا تخشي من أن يكون نجاح محمد عبد الكريم الخطابي في ثورته عاملاً مشجعًا للثورات في شمال إفريقيا ضدها، كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة إلى الثورة على الفرنسيين ورفض الحماية الفرنسية.

 وأرسل المارشال المتجبر المتكبر الفرنسي “ليوتي” الذي كان حاكماً في الجزائر آنذاك إلى فرنسا يقول لهم: إن انتصار العرب في الريف الإسباني وعلى سواحل البحر المتوسط يعني إنشاء إمبراطورية عربية إسلامية، وفتحاً جديداً لأوروبا من قبل المسلمين، وهذا أمر لا يمكن القبول به، وبهذا التخويف دخلت فرنسا الحرب ضد محمد عبد الكريم الخطابي على رغم أنف البرلمان الذي كان معارضاً.

كما قال “كورتي” عضو مجلس العموم البريطاني: إن هذا الرجل الذي ينادي باسمه أهل آسيا وأفريقيا والهند، ويتغنون باسمه.. إن هذا الرجل الذي يزعم هؤلاء أنه يقاتل باسم الإسلام ويعيد إمارة المؤمنين والخلافة الإسلامية، إنه لخطر عظيم على البلاد الأوروبية.

واستعدت فرنسا لمحاربة محمد عبد الكريم الخطابي بزيادة قواتها الموجودة في مراكش، وبدأت تبحث عن مبرر للتدخل في منطقة الريف، فحاولوا إثارة الأمير الخطابي أكثر من مرة بالتدخل في منطقته، وكان الخطابي يلتزم الصمت أمام هذه الاستفزازات؛ حتى لا يحارب في جبهتين، ويكتفي باستنكار العدوان على الأراضي التابعة له، ثم قام الفرنسيون بتشجيع رجال الطرق الصوفية على إثارة بعض القلاقل والاضطرابات في دولة الريف، حيث كانوا يوزعون منشورات تقول إن القتال معه ليس من الجهاد فلما تصدى لهم الأمير محمد عبد الكريم الخطابي تدخلت فرنسا بحجة حماية أنصارها، وخانه بعض رؤساء القبائل الذين اشتراهم الفرنسيون وكانوا ينهون شبابهم عن القتال مع الخطابي.

واجتمعت إسبانيا وفرنسا عليه في جيش عدده زهاء نصف المليون، واندلع القتال بين الخطابي والفرنسيين في إبريل 1925م وحاصر الأسطول الفرنسي الخطابي، (والأسطول الفرنسي كان أعظم أسطول بحري في العالم آنذاك) بمحاربته قامت الطائرات الفرنسية والإسبانية بإلقاء الأسلحة الكيماوية والغازات السامة على المدنيين. وكانت الطائرات التي حاربته منتظمة في أربعة وأربعين سرباً وصارت تقذفه وجنده بأنواع القنابل وهو صابر محتسب في خندقه، وأوقع بهم في أوقات قليلة خسائر جسيمة، وفي نفس الوقت حاصر الأسطول الانجليزي السواحل المغربية وفوجئ الفرنسيون بالتنظيم الجيد الذي عليه قوات الأمير الخطابي، وببسالتهم في القتال، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع طيلة أربعة أشهر، وأصيبت بعض مواقعهم العسكرية بخسائر فادحة.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه منذ العام 1920 كان أحد القادة الشرسين في الجيش الإسباني الماريشال ابن الريف وتلميذ محمد عبد الكريم الخطابي في إحدى الفترات محمد أمزيان وقواته من المغاربة وكانوا أحد الأسباب الرئيسية في حسم المعركة والإنتصار على الخطابي بسبب خبرتهم في طبيعة الأرض والسكان وهو نفسه الماريشال الذي قمع ثورة الريف عام 1959 بعد انضمامه الى الجيش المغربي.

“قد يهمك أيضًا: السلطانة رضية الدين ومجلس الأربعين

شهادة صحفي أمريكي

وصبر محمد عبد الكريم الخطابي صبراً جميلاً حتى أن صحفياً أمريكياً كان موجوداً آنذاك في ساحة المعارك يتابعها وهو “فانسن شين” قال: دخلت على “محمد عبد الكريم الخطابي” في خندق أمامي، والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته متبسماً مرحاً مقبلاً يضرب ببندقيته الطائرات، فتعجبت من هذا الرجل الذي استطاع أن يحافظ على إيمانه وعقيدته في خضم الظروف المحيطة به، وكنت أتمنى أن أمكث أكثر فأكثر مع هذا الرجل العظيم الذي تحيطه هالة من الوقار والجلال، وأقارن به ساسة أوروبا التافهين المشغولين بأمور تافهة فلا أكاد أجد وجهاً للمقارنة، وتمنيت أن أظل أكثر مما ظللت مع هذه الظاهرة البشرية الفريدة التي تأثرت بها أيما تأثر.

وكان المسلمون يستقبلون انتصارات محمد عبد الكريم الخطابي بدموع الفرح والاستبشار الشديد في الهند وعموم آسيا وأفريقيا؛ وذلك أنه كان يجاهد أثناء وبعد إلغاء الخلافة العثمانية، فكانوا يأملون عودتها على يديه. لكن الكثرة الكاثرة تغلب الشجاعة، فجيش محمد عبد الكريم الخطابي كان عشرين ألفاً فقط وهؤلاء مئات الآلاف ومعهم الطائرات وكل الأسلحة التي هزموا بها ألمانيا وإيطاليا والدولة العثمانية، وخانت بعض الطرق الصوفية الخطابي، ولم يجد الخطابي الدعم من الدول العربية والإسلامية حيث كانت أكثر الدول العربية والإسلامية قد سقطت في قبضة المستعمرين فلم يجد مفراً من التسليم بعد أن بقي في مائتين فقط، لكن كان التسليم تسليم الأبطال فقد بقي يفاوض للصلح زماناً طويلاً من منتصف سنة 1925 إلى منتصف سنة 1926ميلادية، أي سنة تقريباً وكان يرفض الاستسلام رفضاً باتاً؛ لكنه لما استشار المائتين ممن بقوا معه أشاروا عليه بحقن الدماء، فالطائرات كانت تقذف بالغازات السامة والقنابل، وتقتل الرجال والنساء والأطفال، فأشاروا عليه بعقد صلح مشرف والبقاء في البلد والاستعداد للقتال في أقرب فرصة.

الاستسلام

وهنا لم يجد محمد عبد الكريم الخطابي بداً من إمضاء الصلح، لكن الفرنسيين واصلوا قذف القرى بالطائرات بعد التسليم، فقال لهم محمد عبد الكريم الخطابي: سيكون من المدهش أن تصيب طائراتكم الرجال في هذه المرة، إذ كانت العادة ألا تقتل إلا النساء، إن حضارتكم حضارة نيران، فأنتم تملكون قنابل كبيرة إذاً أنتم متحضرون، أما أنا فليس لدي سوى رصاصات بنادق، وإذاً فأنا متوحش وكان بهذا يستهزئ بهم، ويقيم الحجة عليهم لأنهم كانوا يتهمونه بالبربرية والتوحش.

“اقرأ أيضًا: دولة المماليك في الهند

غدر فرنسي

أوصى محمد عبد الكريم الخطابي أتباعه بالاستمساك بالدين وعدم الركون إلى المستخربين المحتلين، ولما سلَّم نفسه للفرنسيين بعد كتاب موثق للصلح وإبقائه في الريف خانوا عهدهم معه كعادتهم وكعادة كل (المستخربين) الذين سموا زوراً وبهتاناً ب(المستعمرين)، فنفوه إلى جزيرة “رينيون” في المحيط الهادي شرق مدغشقر لمدة إحدى وعشرين سنة. وكانوا قد منعوا عنه في السنوات العشر الأولى كل وسيلة اتصال بالعالم الخارجي، فحرموه من الجرائد والمجلات ومن كتبه التي أتى بها معه، ثم سمحوا له بعد ذلك بها، فقضى هذه المدة الطويلة في التأمل والذكر والدعاء والصلاة؛ ولو كان غيره لأصابه الجنون أو أمراض نفسية مزمنة.

“اقرأ أيضًا: الاضطرابات النفسية وأنواعها

فرج بعد شدة

بدا لدولة الطغيان الفرنسية أن تعيدالأمير إلى فرنسا، فأتت به سفينة من الجزيرة ومرت بعدن للتزود فتسامع الوطنيين في عدن بمرور سفينة الخطابي فأبرقوا لمصر، وطلبوا من المكتب المغربي فيها أن يحتالوا لإنزال الخطابي من السفينة، وكان الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر وهو في القاهرة على علاقة متينة بالحركة الوطنية في المغرب العربي، أي في كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى منذ العشرينات. وقد ربطته بزعماء حركات التحريرفي تلك البلدان صداقة متينة وزمالة جهاد ومنهم الأميرمحمد عبد الكريم الخطابي وإن كان الرجلان لم يلتقيا من قبل. وكان أبوالحسن ينشر أخبار ثورة الريف وأخبار الحركة الوطنية المغربية بصفة عامة في جريدته الشورى ثم في الكتب التي قام بنشرها.

في يوم 23 مايو 1947 تسلم أبو الحسن برقية من السيد عبده حسين الأدهل من فضلاء بلدة الشيخ عثمان بجوار عدن، يقول فيها صاحبها أن “الأمير محمد عبد الكريم الخطابي قد غادر عدن على الباخرة كاتومبا”.

كانت هنالك إشاعات جارية قبل وصول برقية عبده حسين الأدهل بأن فرنسا على وشك أن تنقل محمد عبدالكريم من منفاه في جزيرة لاريونيون إلى سجن جديد في فرنسا. وكان أبو الحسن وأعضاء مكتب المغرب العربي في القاهرة على علم بتلك الإشاعات، غير أنه لم تكن لديهم أي معلومات عن كيفية نقله ولا موعده. فور تسلمه البرقية قام أبو الحسن بالتذاكر معهم في أمرها، واتفق الجميع على خطة لإنقاذ الأمير محمد عبد الكريم من أيدي الفرنسيين لدى وصول الباخرة الى مصر.

شرع أبو الحسن بالخطوة الأولي من الخطة، حيث وجه البرقية التالية بعد منتصف ليل 27مايو (أيّار) 1947 إلى الملك فاروق، ملك مصر آنذاك. جلالة مولانا الملك المعظم سراي القبة بمصر “وردتني برقية من عدن بأنه قد مرّ بها الأمير محمد عبدالكريم الخطابي أمير الريف بمراكش وأسير فرنسا بجزيرة ريونيون منذ عشرين سنة. وهو بطريقه لمنفاه الجديد بجنوب فرنسا، وستصل به الباخرة “كاتومبا” غداً الثلاثاء للسويس، وإنقاذه معلّق بإشارة كريمة من جلالتكم بدعوته للنزول، ولا سُلطة لفرنسا عليه سوى سلطة الخاطف على المخطوف. فهو ليس بفرنساوي، وما دامت الباخرة في مياهنا فهي تحت سلطة محافظ السويس قانوناً. إن مكارم جلالتكم التاريخية بنظر العالم الإسلامي هي التي أوحت إلي برفع هذا الحادث لمقامكم السامي مع الدعاء بحفظ الذات العلية”. التوقيع : محمدعلي الطاهر – رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر”.

وقد ارسل أبو الحسن البرقية رأساً إلى سراي القبة، أي مقر إقامة الملك، و ليس إلى ديوانه في سراي عابدين، وذلك للتأكد من وصولها في نفس الليلة. عند وصولها بعد منتصف الليل قام رئيس الحرس بتسليم الملك البرقية فاطلع عليها ثم وضعها في جيبه دلالة على أهميتها وأمر رئيس الحرس بأن يطلب من رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي أن يحضرا قبل ظهر اليوم التالي للاجتماع به في ديوانه بسراي عابدين.

ويمكن الاطلاع على تفاصيل ما دار في القصر في مذكرات كريم ثابت باشا، المستشار الصحافي للملك، التي قال فيها بالحرف الواحد أن “الجندي المجهول” في قصة التجاء الأمير محمد عبد الكريم إلى مصر من أولها إلى آخرها والذي أرسل البرقية إلى الملك هو الأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة “الشورى، استعد أبو الحسن بالتفاهم مع كريم ثابت باشا وبالتشاور مع إخوانه أعضاء مكتب المغرب العربي بالقاهرة يوم 31 مايو (أيار) 1947 لتنفيذ المرحلة الثانية من الخطة حيث توجه قسم منهم إلى ميناء السويس للقاء الأمير والتذاكر معه في مسألة تهريبه، بينما توجه الفريق الآخر إلى ميناء بورسعيد لتنفيذ المرحلة الأخيرة من الخطة.

بعد أن وصلت الباخرة إلى ميناء السويس، صعد إليها الأميرالاي محمد حلمي حسين بك الذي كلفه الملك فاروق بإبلاغ الأمير محمد عبد الكريم تحية ملكية سامية من طرفه وطرح عليه فكرة لجوئه إلى مصر. فوافق الأمير من حيث المبدأ وإن كان قد بوغت بالفكرة، واتفق الاثنان على أن ينزل الأمير وحاشيته في بورسعيد، أي بعد اجتياز قناة السويس كي يتمكن الأمير من التشاور في الأمر مع أفراد أسرته. استقل الأميرالاي محمد حسين حلمي بك بعد ذلك قطارا إلى بورسعيد كي يأخذ الجواب من الأمير محمد عبد الكريم لدى وصول الباخرة .

ما أن رست الباخرة في بورسعيد حتى صعد إليها حلمي بك حيث أخبره الأمير محمد عبد الكريم بأنه قد استقر رأيه على قبول دعوة الملك. وعند ذلك لقّنه حلمي بك تفاصيل التمثيلية التي مثلت بعد ذلك، لكي تستطيع السلطات المصرية أن تقول أن عبد الكريم وضعها أمام الأمر الواقع بالتجائه هو وأسرته إلى مصر. نزل الأمير عبد الكريم من الباخرة مع أفراد أسرته في بورسعيد بحجة زيارة المدينة كما زار مدينة عدن من قبل. غير أنه توجه مع مستقبليه من أعضاء مكتب المغرب العربي إلى جانب محمد علي الطاهر الذين كانوا في انتظاره إلى دار الحكومة حيث كان محافظ بورسعيد فؤاد شيرين باشا ينتظره.

وهناك طلب الأمير اعتباره لاجئاً سياسياً في مصر. وتوجه الجميع فورًا إلى القاهرة حسب الخطة المرسومة. وذهب الأمير الى قصر عابدين حيث رحب به كريم ثابت باشا باسم الملك ومن هناك أخذته وصحبه سيارات القصر الملكي إلى استراحة الملك في إنشاص القريبة من القاهرة. وهكذا ما أمسى المساء حتى كان الأمير وأسرته في القاهرة ضيوفاَ على مصر. وبذلك تم انقاذهم من يد السلطات الفرنسية.

وورد في مذكرات الأهدل: أنه “في 22 مايو 1947 أرست الباخرة كاتومبا، الأسترالية التسجيل، في ميناء عدن للتزود بالوقود وعلى ظهرها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي. ولم يكن أحد يعرف بوجود الأمير على الباخرة الراسية في الميناء. غير أنه شاءت الأقدار أن يلتقي الأهدل بأولاد الأمير الذين كانوا قد نزلوا من السفينة للتنزه في المدينة في شارع الزعفران بمدينة عدن دون معرفة سابقة بطبيعة الحال. غير أنه باعتبارهم من الأخوة العرب دعاهم لضيافته. وخلال حديثه معهم أجابه أكبرهم سناً أنه إبناً للأمير محمد عبد الكريم الخطابي بطل الريف. ثم اصطحبوه معهم إلى الباخرة حيث قابل الأمير وسلّم عليه وطلب منه أن يُشَرّفَ المدينة بضيافته له مع أفراد أسرته”.

ويضيف الأدهل في مذكراته أنه “أقام مأدبة غداء في أحد فنادق عدن حضرها وجهاء وأعيان اليمن، وأضاف أن الفندق والشوارع المجاورة له قد ضاقت بحشود المحتفين بالأمير عندما علموا بوجوده في المدينة، كما رافق موكبه العديد من سيارات المواطنين خلال تجواله لمشاهدة معالم المدينة”. ويقول الأدهل أنه “في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم 23 مايو 1947 غادرت الباخرة ميناء عدن تقل الأمير وحاشيته، وأنه بعد أن ودعه على ظهر الباخرة بعث بالعديد من البرقيات إلى كل من توسم فيهم القدرة على إنقاذ الأمير من أسره.

وكانت إحدى هذه البرقيات موجهة إلى أبا الحسن كما ذكر آنفاً. ويقول أبو الحسن في حديثه لجريدة “الحياة” أنه “عندما نقلت فرنسا الأمير عبد الكريم وآله سنة 1947 من منفاهم في جزيرة ريونيون، قالت أنها تنقلهم إلى جنوب فرنسا رأفة بهم. وفي الحقيقة كانت تريد أن تهدد بالخطابي الملك محمد بن يوسف، أي الملك محمد الخامس ملك المغرب، الذي استعصى على فرنسا إخضاعه، كما أعجزها “تدجين” شعبه، حتى إذا لم ينزل الملك محمد الخامس على إرادتها تلوح له بالأمير محمد عبد الكريم الذي كان قد أعلن الجمهورية في شمال المغرب قبل أسره، لتضعه على رأس المغرب بدلا منه.

وهذه الطريقة سبق أن سلكتها فرنسا في القرن التاسع عشر عند قيام حربها مع الأمير عبد القادر الجزائري، حين أوهمت المولى عبد الرحمن، سلطان المغرب إذ ذاك، بأن الأمير عبد القادر يقصد الإستيلاء على المغرب وإزالة ملكه”. فاستطاعت فرنسا بذلك إثارة السلطان على الأمير عبد القادر، وعزل المغرب عن حرب الجزائر.

كما قص أبا الحسن في نفس الحديث تفاصيل العلاقات بين الملك محمد الخامس والأمير محمد عبد الكريم الخطابي عقب الاستقلال، ويمكن الإطلاع عليها في صفحة 814 – 818 من كتاب “خمسون عاماً في القضايا العربية” الذي يتضمن في عدة مواقع منه تفاصيل إضافية تتناول قصة تهريب الأمير محمد عبد الكريم الخطابي. وهنا قامت قيامة فرنسا وثارت لكن بعد فوات الأوان، ومن الطريف أن فرنسا اتهمت مصر بالخيانة والغدر.

واتصل الأمير الخطابي بمكتب المغرب العربي في القاهرة حيث عيّنوه رئيساً له، وأخوه كان نائباً له، وعمل مع أعضائه لتخليص بلادهم من الاستعمارالأجنبي البغيض، وهكذا الداعية لا يفتر ولا يقعد، فبعد إحدى وعشرين سنة من النفي والعزل عاد الأسد إلى عرينه، واتقدت الشعلة التي أطفأها الطغيان، واتصل بالمغاربة، وبالحاج أمين الحسيني وجمعية الشبان المسلمين.

وفي عام 1959 زار الثائر المعروف جيفارا القاهرة للقاء الخطابي وحين التقاه قال:

أيها الأمير جئت لك خصيصا لأتعلم منك أساليب حرب العصابات.

كما قال الثائر الفيتنامي “هوشي منه” أنه استلهم تجربة الخطابي في حرب العصابات للقتال ضد الفرنسيين ومن بعدهم الأمريكان.

وفاته

وقد توفي الأمير في القاهرة في 1 من رمضان 1382هـ/ 6 من فبراير 1963م، ودفن فيها.

[ppc_referral_link]