صفحات من التاريخ – الصفحة الخامسة – الجزء الثالث – إبراهيم بك الهلباوي

[faharasbio]

تعرفنا في الجزئين السابقين على حادثة دنشواي وقاضي محكمتها فلنتعرف اليوم على محامي الشيطان الذي دافع عن الباطل وأدان الحق، إنه إبراهيم بك الهلباوي، فمن يكون؟

إبراهيم بك الهلباوي

بالرغم من أن الناس عرفوه كأحد أعظم المحاميين الذين أنجبتهم مصر، فإن حياته تعدّ نموذجاً تقليدياً لقصة حياة البطل الذي يخطيء مرةً واحدةً فيهيل على تاريخه التراب، ويظل مثل سيزيف يكافح طوال ما تبقى من عمره -دون جدوى- للصعود بالصخرة إلى قمة الجبل، دون أن يغفر له أحدٌ خطيئته في حق الشعب.

أحب شعب مصر آنذاك إبراهيم بك الهلباوي “1858-1940”. إذ ضرب به المثل وأصبح اسمه على لسان الصغير والكبير، وصار اسمه علامة شعبية مسجلة، الجميع يحبونه ويبجلونه، إذا أحسن الفرد الكلام، يضرب باسم الهلباوي المثل فيقول المتلقي: لسانك مثل لسان الهلباوي، وإذا رضيت الأم عن ابنها تدعي له قائلة: أراك مثل الهلباوي.

وكان من أكبر وأغنى محامي عصره، لا يخسر قضية قط، ولا يقدر على أجرته غير الأثرياء، يتهافت على مرافعاته المحامين والصحفيين والتلاميذ لسماع حديثه متقن الحروف والألفاظ والإقناع، وحججه القانونية المقنعة، الكل ينظر إليه ويتمني أن يكون مثله في يوم من الأيام لذا وصفه عباس محمود العقاد ذات مرةٍ بأنه “كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها”.

وكان إبراهيم بك الهلباوي خطيباً مفوهاً وممثلاً رائعاً يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفةٍ ورشاقة، يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوهاً بعبقرية هذا الرجل. قال عنه عبد العزيز البشري في “المرآة” إنه “شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلاً، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض.. إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري”.

كان إبراهيم بك الهلباوي يقف في المحكمة فيهز مصر كلها بفضل حججه القانونية البارعة التي جعلته يدعى أعظم طلاب المرحمة، على حد وصف معاصريه.. لكنه فشل في طلب الرحمة لنفسه من الشعب في حادثة دنشواي. وعلى امتداد 30 عاماً طويلة حاول أن يكفِرَ عن ذنب ارتكبه، لكن الشعب أصم أذنيه لأن الذنب كان من النوع الذي يصعب نسيانه وغفرانه.

ففي يوم 20 يونيو حزيران عام 1906، أصدر بطرس باشا غالي نيروز وزير الحقانية بالنيابة قراراً بتشكيل المحكمة المخصوصة لمحاكمة المتهمين في حادثة دنشواي برئاسة بطرس باشا غالي نفسه، وعضوية كلٍ من “المستر” هبتر نائب المستشار القضائي، و”المستر” بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائم مقام لهادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك (حمل لاحقاً لقب: باشا) رئيس محكمة مصر الابتدائية وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو حزيران.

سافر إبراهيم بك الهلباوي إلى الأسكندرية لقضاء عطلته، وهناك قرأ في الجرائد عن حادثة دنشواي، وعراك بعض الفلاحين مع الضباط والعساكر الإنجليز وموت بعض الأشخاص، قرر في سريرة نفسه التطوع والدفاع عن الفلاحين، فإنها فرصة لا بدّ من اغتنامها، فهذه الحادثة أصبحت حديث الصحف المحلية والعالمية ولا بدّ من ذكر اسمه في هذا الحدث، وكان من المقرر أن يحضر إبراهيم بك الهلباوي التحقيق مع المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي يوم السبت الموافق 16 يونيو عام 1906 لكنه لم يحضر لعدم عثوره على وسيلة انتقال مباشرة إلى دنشواي ولارتفاع درجة الحرارة في ذلك اليوم!!

وعلى رصيف القطار في القاهرة، وجد الياور الخاص برئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا يخبره بأن “الباشا” ينتظره في مكتبه لأمرٍ مهم (الياور كلمة تركية ومعناها المرافق الشخصي). ثم التقى الهلباوي محمد محمود بك رئيس حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، وكان يعمل آنذاك سكرتيراً خاصاً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي “المستر” ميتشل، الذي سأله عما إذا كان أحد من المتهمين في حادثة دنشواي قد وكله للدفاع عنه.. فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أكبر المحامين سناً وأقدمية.

المفاجأة كانت في حسم إبراهيم بك الهلباوي تردده وقبوله المهمة، بل وتواضعه في تحديد أتعابه، فمع أنه –كما قال فيما بعد- “كان يتقاضى 500 جنيه في القضايا الكبرى، فإنه خفض أتعابه في هذه القضية، فقبِلَ أن يترافع فيها ب 300 جنيه فقط”.

هذا هو الهلباوي..لا فارق لديه بين أن يدافع عن المتهم ليطالب بتبرئته، أو أن يكون المدعي العام الذي يثبت عليه الاتهام ليطالب بإعدامه، وهكذا استقبل إبراهيم بك الهلباوي في مكتبه “المستر” موبيرلي المفتش الإنجليزي لوزارة الداخلية و”المستر” مانسفيلد الحكمدار الإنجليزي لبوليس القاهرة اللذين أبلغاه أنهما مكلفان بأن يكونا في خدمته في كل ما يتعلق بقضية دنشواي، واقترحا عليه أن يحضر التحقيق وأن يشارك في استجواب المتهمين، لكنه اعتذر عن ذلك وفضلَ أن يزور مسرح الأحداث ليعاينه. وفيما بعد، قال الهلباوي – في معرض تبرير سقطته – إن قبوله القيام بدور المدعي العام قد مكَنه من صد المحاولات الإنجليزية التي استهدفت تضخيم الحادثة!!

دوره في المحكمة

استخدم الهلباوي دهاءه لتكييف واقعة اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز بحيث يثبت أن الحريق الذي وقع في الجُرن نتيجة رصاص الضباط الإنجليز أثناء رحلة الصيد في دنشواي، هو حادثٌ تالٍ للاشتباك بين الفلاحين والضباط –وهذا لم يكن صحيحاً- بل زعم إبراهيم بك الهلباوي أن الضباط الإنجليز لم يكونوا أصلاً السبب في حدوث حريق الجُرن.. وأشار إلى أنه حريقٌ متعمد اصطنعه الفلاحون ليخفوا أدلة سبق إصرارهم وتعمدهم التحرش بالضباط الإنجليز والاعتداء عليهم بالضرب وهكذا تمكن الهلباوي من تبرئة الضباط الإنجليز من الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها، في حين زاد من مسؤولية الفلاحين عن الحادثة.

واتخذ إبراهيم بك الهلباوي من نجاح الفلاحين في إخماد النيران في الجُرن في غضون ربع ساعةٍ فقط دليلاً على أن الفلاحين هم الذين أطفأوا النيران بعد أن أشعلوها. ولم يبق في إثبات ركن سبق الإصرار على القتل والشروع فيه سوى إثبات أن فكرة القتل لم تكن عرضيةً وإنما كانت نيةً مبيتة. وصوّر الهلباوي الأمر أمام المحكمة وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد في قريتهم. وكان الملازم بورثر قد ذكر أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهي شهادةٌ كانت كافية لتبرئته.

وعندما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي، ورد في أقواله هو الآخر أنه قد قدم الماء للضباط.. فتنبه الهلباوي إلى نقطةٍ جزم بأنها فاتت على الملازم بورثر، ووقف ليقول إنه يلاحظ شبهاً كبيراً في الملامح بين المتهم عبد المطلب والشاهد فتح الله، وإنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم بورثر.. فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزي الذي حسم الامر، وقال إن الذي سقاه هو ابن العمدة وليس المتهم. وبذلك حرم الهلباوي المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة وبذلك حول الجنود المتهمين الى ضحايا واسقط عنهم تهمتي القتل و حرق حقول القمح.

ومن أقواله “الاحتلال الإنكليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقي ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!”. وقال أيضًا: “هؤلاء الضباط الإنكليز، كانوا يصيدون الحمام فى دنشواى، ليس طمعًا فى لحم أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنكليزي ذلك لكنت خجلًا من أن أقف الآن أدافع عنهم!!” وقال إبراهيم بك الهلباوي أيضًا: “هؤلاء السفلة، وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي، قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنكليز بالعصى والنبابيت، وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنكليز بيننا خمسة وعشرون عامًا، ونحن معهم في إخلاص واستقامة!!

وهنا انقلب السحر على الساحر، وهاجمته الصحف أشر هجوم ونبذه الشعب والأصدقاء والأقارب، أصبح وصمة في جبين الوطن، وأصبح لقبه جلاد دنشواي، وقد حاول تصحيح المسار والتقرب بأي وسيلة للشعب وتحسين وضعه من خلال التطوع بالدفاع عن إبراهيم الورداني قاتل بطرس غالي لكن محاولاته باءت جميعها بالفشل، وأصبح في نظر الشعب الجلاد والخائن وعاش على هذا الوضع حتى الممات.

[ppc_referral_link]