مر ما يقارب العام منذ رحلتي إلى وادي عبقر ومازالت أحداثها ماثلة بمخيلتي، حتى كان ذات
يوم كنت عائدًا فيه من عملي، فتحت باب البيت ودخلت لأشم رائحة قهوة عبقت داخل أنفي
استغربت الأمر فلا يوجد في البيت أحد فمن أين تأتي هذه الرائحة؟
سحبتني الرائحة خلفها حتى المطبخ وهناك كانت المفاجأة …….
كان الزعفران بن العطار يجلس في المطبخ يحتسي القهوة ويتصرف وكأنه في بيته، لا أنكر
أن قلبي رقص فرحًا لرؤيته ولكن ملامح التجهم والغضب كانت بادية على وجهي، فنظر إلي
متجاهلًا غضبي قائلًا:
تفضل واشرب القهوة معي، نظرت له نظرة غضبى وصرخت به:
أنت أيها اللعين ما الذي دعاك لاقتحام بيتي في غيابي؟
فأجابني بسخرية ليزيد غضبي، اقتحام؟ ما الذي تتحدث عنه من الذي اقتحم بيتك؟
دلني عليه وسأمزقه إربًا، فقلت والكلمات تخرج كالسيل من فمي:
كيف دخلت إلى هنا ومن سمح لك بذلك؟
فضحك وقال ربما معي ذلك المفتاح الذي نسيت اسمه والذي يفتح كل الأقفال ….
أنا يا صديقي أدخل أين شئت وكيف شئت ولا يمنعني شيء، فضممت قبضتي كمن يريد أن
يلكمه وتقدمت نحوه فابتعد عني إلى خلف الطاولة مشاكسًا ومعابثًا لي وقال لي وهو يتصنع
الجد: تأدب يا ولد أتريد أن تضرب شيخًا كبيراً بعمر جدك الأول؟
ما هذا يا بني البشر تدرسون كثيراً ولكنكم تنسون في خضم دراستكم تعلم الأدب؟
التقطت الكلمة من فمه وألقيتها إليه مباشرة قائلًا :نعم، جدي أما زلت تذكره؟ ذلك الذي خنته وأرسلت تقريرك عنه وكنت سبباً للتفريق بينه وبين محبوبته.
غاضت الابتسامة على وجه الزعفران وحل مكانها العبوس والغضب وقال لي بلهجة آمره
وهو يشير إلي بسبابته:
اخرس وإياك أن تنعتني بالخيانة مرة أخرى وإلا حولتك بضربة واحدة مني إلى كتلة لحم لا
فائدة منها، الزعفران لم يكن خائناً ولن يكون، خففت من حدة لهجتي معه وتغاضيت عن
إهانته لي وقلت:
أليست تلك هي الحقيقة، هل تغضبك كلمة الخيانة أكثر من الخيانة نفسها؟
نظر إلي نظرة كلها غضب وقال:
كان لكلماتك منذ آخر مرة التقينا فيها وحديثك عن الثأر لجدك أثراً كبيراً في نفسي وجعلاني
قلقاً لا يهدأ لي بال ليس خوفاً من ثأرك أبداً، فمثلك لا يقلقني ولا يعنيني، ولكن ربما يجب عليك
أن تعرف الحقيقة التي احتفظت بها لنفسي طوال قرون، ولأني شعرت بأنفاس جدك تفوح منك
فكان لزاماً علي أن أخبرك بها، لأنفي عن نفسي تهمة الخيانة لصديقي.
لقد سمعت جزء من الحكاية وسأقص عليك تتمتها فلتجلس، كنت ما زلت متشبثاً بعنادي
وكبريائي الزائفين أمامه لذا هممت بالاعتراض عليه إذ كيف يلقي علي أوامره في بيتي،
ولكن نظرة نارية واحدة من عينيه كانت كفيلة بأن أجلس أمامه بلا حراك، كنت أنظر إليه
وهو مطرق ساهم مفكر فاحترمت صمته ولم أشأ أن استحثه، وأخيراً زفر زفرة قوية من
صدره خلتها ستحرقني وتحرق المكان كله وقال: اسمع أيها الفتى مالم يسمعه أحد مني من قبل.
كنت وجدك خنفر صديقان حميمان وكنا مثل أخوان، ولكن الملك النعمان أرسلني لمراقبته
وموافاته بتقريري خوفاً على الأمير من أن يكون قد تورط فيما لا تحمد عقباه، ورحبت أنا من
جهتي بالمهمة لأكون قرب صديقي وأحميه من أي خطر، ومنذ اليوم الأول لوصولنا اكتشفت
أن الأمير عاشق للأميرة سانيا وحسب تعليمات المهمة الموكلة لي، فقد كان من المفروض أن أرسل تقريري للملك النعمان مباشرة ودون أن أكشف نفسي للأمير ولكن نوازع الصداقة والأخوة بيني وبينه دعتني ذات يوم لاعتراض طريقه وتحذيره من مخاطر هذا الحب وعواقبه، ولكنه لم يستمع لنصيحتي وضرب بها عرض الحائط، فهددته بأني على وشك إرسال تقريري للملك النعمان وسأضمنه كل ما رأيت لكنه لم يأبه بذلك، لذا كان لزاماً علي أن أرسل تقريري للملك النعمان الذي أمر بإحضار الأمير دون توان فقاطعته قائلًا:
ألم يكن بإمكانك أن تخفي الأمر وتتركهما ينعمان بحبهما؟
فقال: يا فتى أنا قائد فرسان الوادي وأقسمت يمين الولاء والطاعة للملك ولم أكن لأخونه يوماً
وأدنس شرفي العسكري، ولكن لأجل الصداقة تجاوزت حيثيات المهمة وأظهرت له نفسي
وحذرته .
فأكملت قائلا : ثم تم محاكمة الأمير ووووو….. القصة التي أعرفها أليس كذلك؟
فأجاب ناظراً إلي بهدوء : ترى ألم تسأل نفسك من أبلغ الأميرة سانيا بمكان الأمير وحالته؟
فأجبت: حسب ما قال السيسبان أن عرافة قديرة هي من أخبرتها ودلتها على مكانه.
فضحك قائلا : تلك العرافة عاقصة بنت الضحاك هي زوجتي وأنا من أرسلتها للأميرة بعد أن
لبست ثياب عرافه وتقمصت دورها، وأنا من لقنها ماذا أريد أن أخبر الأميرة به والطريقة
المثلى للوصول إلى وادي الجن ومقابلة الملك النعمان والحجج التي ألقتها لاحقاً أمام حكماء
الجن.
فلولا مساعدتي لم تكن لتستطيع معرفة أخبار الأمير لأن كل أفراد مملكتنا كانوا مأمورين بعدم
افشاء السر ومن يفعل ذلك يكون مصيره القتل، كنت أنا ذلك الجندي المجهول، فقد كان
الأمير صديقي الوفي، ولم يكن بإمكاني أن أتركه فريسة للجنون، غامرت وقتها بانكشاف
أمري وغامرت برأسي من أجل صداقتنا.
انفرجت أساريري وتحولت كل مشاعر السخط والغضب بداخلي ضد الزعفران فجأة إلى رضا
ومحبه وقمت واقفاً وسألته:
هل تشرب القهوة معي؟ كنت أريد أن أشعره أنه أصبح موضع ترحيب.
التقط الزعفران بن العطار رسالتي وابتسم قائلًا:
نعم سأشربها معك ولكن ألم تنس شيئاً قبلا؟
فالتفت إليه لأجده فاتحاً ذراعيه قائلًا:
نسيت أن ترحب بصديقك الذي لم تره منذ عام
فأسرعت اليه محتضناً له ومقبلًا رأسه، فدفعني بلطف قائلًا هيا يا فتى اصنع لنا القهوة قبل أن
أبكي وتتحدث عني كل الجن أن فارس الفرسان قد بكى.
من كتاب رحلة إلى وادي عبقر وقصص أخرى.