قصة نادين – رحلة إلى وادي عبقر

قصة نادين
Share this post with friends!

قصة نادين من رحلة إلى وادي عبقر:

كان يوسف عائدا من زيارة قريبه المريض والذي يقطن في إحدى القرى البعيدة النائية، ولكن فجأة وعلى حين غرة توقفت سيارته وحاول تشغيلها وفتح غطاء المحرك محاولاً معها ولكن هذا الجسد كأنه كان قد مات ولم يعد يستجيب لكل محاولات الإنعاش.

جلس بداخل سيارته ليتقي البرد والمطر وهو يفكر ويلوم نفسه، فقد عرض عليه قريبه أن
يقضي ليلته عندهم، ولكنه رفض ذلك بكل إصرار واختار أن يسلك هذا الطريق المختصر
برغم خطورته بدلاً من أن يسلك الطريق المعتاد وذلك لتوفير الوقت، وانتظر لمدة ساعة أو
تزيد عل أحد يمر من هنا ويساعده ولكن دون جدوى حاول أن يتصل مع أحد أصدقاءه لينجده
من ورطته، ولكن لسوء حظه وجد أن شبكة الهاتف منعدمة في تلك المنطقة، يا له من سوء
حظ رافقه ماذا سيفعل الآن هل يظل طوال الليل هنا؟

بدأت الأمطار تخف تدريجياً حتى هدأت، عندها خطر له أن يسير مبتعداً قليلاً فربما يكون
هناك منزل قريب يجد فيه هاتفاً أرضياً يتصل منه، وبعد مسيره لما يقارب النصف ساعة في
هذا الجو القارص البرودة لمح أنوار منزل على البعد تتلألأ في حلكة الليل فسار باتجاهه،
وعندما وصل وجده من تلك المنازل الضخمة التي تشبه القلاع القديمة وتساءل كيف أتى من
هذا الطريق عدة مرات ولم يشاهد هذا المنزل قبل ذلك؟

هم بقرع الجرس ولكنه تردد قليلاً فهل يزعج الساكنين في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟
ولم يطل تردده كثيراً حيث حدثته نفسه بأن المضطر يركب الصعاب ولا بد أن أهل المنزل
سيعذرونه، فتغلب على مخاوفه وضغط على الجرس، وانتظر قليلاً، ثم ضغط مرة أخرى
حتى سمع خطوات متثاقلة قادمة نحو الباب، ليفتح بعد برهة ويطل من خلال فتحته رجل
عجوز يتجاوز عمره السبعين بقليل حسبما يعتقد يغالب النعاس وشرح له مشكلته وأنه يريد
استعمال الهاتف، ليخيب أمله ويخبره أنه ليس في هذا المنزل هاتف يمكن استعماله، ولكن.. يمكنك الدخول للحصول على بعض الدفء ريثما أبلغ سيدي بوجودك، ولنترك يوسف بنفسه يكمل قصته ولنستمع إليه:

قادني الخادم خلفه الى حجرة جلوس واسعة، وجلست أتأملها بما فيها من تحف ولوحات
زيتية كبيرة استوقفتني إحداها وكانت تمثل أحد الفرسان وأظنه تركياً يلبس لباساً مزركشاً
ويركب حصاناً مطهماً ويحمل بيده سيفاً ولكن الغريب في الصورة كان حجم القسوة الظاهرة
في عينيه والبادية على قسماته والتي جعلتني أرتعش لا أعرف لماذا.

فاجأني صوت أجش من خلفي قائلاً: صورة جدي عبد الرحمن باشا سنجق، التفت لأجد
أمامي رجلاً مهيباً غطى الشيب مفرقه يميل الى القصر قليلاً، يلبس نظارة طبية فوق عينيه
ويرتدي روباً أنيقاً فوق ملابس النوم، مد يده مرحباً ومعرفاً على نفسه دكتور عزت سنجق
مالك هذا القصر وصاحبه، مددت يدي مسلماً عليه لأفاجأ ببرودة يده الشديدة ولكن عزوت
ذلك في نفسي إلى برودة الجو، فاعتذرت له عن إزعاجه في مثل هذه الساعة من الليل
وشرحت له الوضع وأن سيارتي توقفت بشكل مفاجئ وهاتفي فقدت فيه الشبكة.

فاعتذر بعدم وجود هاتف أرضي في القصر وأن المنطقة تعاني من انقطاع متكرر في شبكة
الهاتف المحمول منذ عدة أيام.

في هذه الأثناء دخل ذلك الخادم الذي فتح لي الباب بطريقة مفاجئة لم ألحظها يدفع أمامه
عربة وضع عليها ابريقاً وأكواباً فاخرةً للشاي وبعض قطع من الكعك، فحاولت الاعتذار حتى
لا أزعجهم أكثر ولكن د. عزت أصر وأشار للخادم بالانصراف وقام بصب كوبين من الشاي لي
وله.

وقطعنا الوقت بالحديث عن القصر الذي بناه جده عبد الرحمن باشا عام ١٨٧٠ م.
طوال الجلسة كنت أشعر بالصورة تنظر إلي نظرات قاسية تكاد تخترقني، وكأن الباشا كان
يحتج على وجود هذا الغريب المتطفل في قصره، كنت أحس أن الباشا يمكن أن ينقض علي
في أي لحظة ليمزقني بسيفه إرباً.

كان شعوراً بالاختناق يلازمني ولا أعرف له سبباً، ولكني كنت أرغب بالمغادرة بشدة، وقفت
ومددت يدي للدكتور عزت مودعاً ومعتذراً عن إزعاجه في مثل هذا الوقت المتأخر، ولكنه
أمسك بيدي فسرت قشعريرة في جسدي، مازالت يده باردة كما كانت وألح علي في المبيت
عنده، فلا معنى لذهابي في هذه الليلة فلن يكون هناك من يصلح السيارة في هذا الوقت من
الليل ولن يكون هناك سيارات عابرة لأستعين بها.

كان كلامه مقنعاً ومنطقياً، وقال لي بأن غرف القصر كثيرة ولن أزعجهم في شيء، وافقت
على عرضه على مضض مني، ليقوم بعدها بقرع جرس دخل بعده ذلك الخادم بنفس طريقته
السابقة بغتة ومتسللاً كقط فأمره بتجهيز غرفة لي في الطابق العلوي، أحنى الخادم رأسه
انحناءة خفيفة وغادرنا، وقال لي الدكتور عزت أنت في ضيافتي واعتبر نفسك في بيتك،
فشكرته بحرارة على كرمه.

بعد فترة عاد الخادم ليصطحبني الى غرفتي قائلاً بوجه جامد لا يبدي أي مشاعر: تفضل يا
سيدي.

حقاً لا أدري لم شعرت بنفور من ذلك الخادم الذي كان يظهر فجأة ويختفي فجأة، وصعد بي
الى حجرة فسيحة فخمة الأثاث وفتح دولاباً في الحائط ليخرج منها ملابس للنوم وقدمها لي
قائلاً: تفضل يا سيدي وإن أردت شيئاً فما عليك إلا قرع الجرس هنا وأشار لي إلى مكانه
هززت رأسي شاكراً وودعني وأغلق الباب خلفه منصرفاً.

قمت بتغيير ملابسي ولدهشتي الشديدة كانت ملابس النوم على مقاسي تماماً وكأنها قد تم
تفصيلها لي أنا.

أخذت أتأمل لوحة زيتية معلقة على الجدار يظهر فيها جيشان يتقاتلان بالسيوف، استلقيت
على فراشي الوثير ورحت أحدق بسقف الحجرة أسترجع ما مر بي من أحداث ورحت في
غفوة رأيت فيها كأن هناك رجلا يخرج من اللوحة الزيتية ويقف أمامي شاهراً سيفه إنه هو
ذلك الباشا سيد القصر بعينيه المخيفتين وتوهجهما الغريب، صرخ في بصوت مدو انخلع له
قلبي قائلاً:
يوسف أيها الخائن كيف تجرؤ على ما فعلت؟ كيف تجرؤ على خيانتي، لا جزاء لك إلا
الموت الآن وبيدي.

كنت أحاول الهرب ولا أستطيع، أحاول الصراخ ولكن صوتي لا يجاوزني، وعندما رفع
سيفه ليهوي به على رقبتي أفقت مذعوراً صارخاً وقد جف حلقي وفجأة إنطفأ الضوء وغرقت
الحجرة في ظلام دامس فتجمدت مكاني بلا حراك.

وبعد قليل سمعت طرقاً خافتاً على الباب وأذنت للطارق بالدخول، كانت تتقدم نحوي حاملة
شمعة بيدها وعندما اقتربت تمكنت من أن أميز تفاصيلها على ضوء تلك الشمعة كانت فتاة
ربما لم تتجاوز العشرين من عمرها رقيقة الملامح هادئة، عرفتني على نفسها بقولها إسمي
نادين حفيدة الدكتور عزت وأنه جدها لأمها واعتذرت بتلعثم عن إزعاجي في مثل هذا الوقت
من الليل ولكنها كانت مستيقظة فسمعت صرختي وتبعها انقطاع الكهرباء وهو شيء كثير
الحدوث في هذه المنطقة.

اعتدلت في جلستي على السرير ورحبت بها ودعوتها للجلوس، كانت جميلة مع مسحة
حزن واضحة على ملامحها، سألتني عن نفسي وما الذي أتى بي هنا وحدثتني عن نفسها
قليلاً، لم أحس بالوقت يمر، وبعد ساعتين خلتهما دقيقتان عادت الكهرباء فاستأذنت مني للانصراف.

سألتها إن كنت سأراها في الصباح قبل مغادرتي فقالت بصوت خلته غريباً انك لن تغادر
ولكني لن أستطيع رؤيتك لأن جدي لا يحب تواجدي مع الغرباء وأرجوك ألا تخبره أني جئت
لك وأننا تحادثنا معاً، وغادرتني على عجل.

عدت للاسترخاء في فراشي أفكر في تلك الجميلة، كانت الريح تزمجر في الخارج والسماء
تمطر بغزاره، لا أعلم كم نمت ولكني صحوت على صوت دقات عل باب الحجرة ثم دخل ذلك
الخادم بخطوات كالقط وقال بصوت خلته عدائياً:
إن سيدي ينتظرك بعد عشر دقائق على مائدة الإفطار، أومأت برأسي موافقاً بدون أن أرد عليه
فأدار ظهره وغادرني، قمت من فراشي واغتسلت ولبست ثيابي ونزلت إلى الطابق السفلي إلى
حيث غرفة الطعام وألقيت التحية على مضيفي الذي كان ينظر إلي متفحصاً وسألني بغتة هل
نمت جيداً؟

فأجبته بأن انقطاع الكهرباء أيقظني من نومي ولم أستطع النوم إلا بعد عودتها فنظر لي
متسائلاً وهل انقطعت الكهرباء الليلة؟ متى حدث ذلك؟
ونادى خادمه وسأله ولكنه لفرط دهشتي أجابه أن ذلك لم يحدث، تجاهلت الأمر وقلت في نفسي
ربما كان هذان العجوزان نائمين فلم يلحظا ذلك.
بعدها سألني ماذا تنوي أن تفعل الآن؟
فأجبته بأنني أنوي الخروج من المنزل وإيجاد من يصلح لي سيارتي فرفع حاجبيه قائلاً:
بالطبع لن تفعل ذلك لأنك ربما لم تلاحظ أن الجو غير مستقر في الخارج وأنها تمطر بغزارة
ولن تجد من يصلح لك سيارتك وقال لي بلهجة آمره لن تخرج من هنا حتى تستقر الأحوال
الجوية حاولت الاعتراض ولكنه أسكتني بإشارة من يده أنهى بها النقاش.

ثلاثة أيام رتيبة مضت لم يتوقف فيها المطر عن الهطول إلا لماماً ولم تكف السماء فيها عن
التجهم كنت أقضيها بين غرفة الطعام والمكتبة الضخمة التي لا يمل المرء من مجرد تصفح
عناوينها افتقدت فيها نادين ولم أرها ولم يكن من الذوق السؤال عنها حتى كانت الليلة الثالثة
عند منتصف الليل حيث انقطعت الكهرباء عن القصر فجأة.

شعرت بفرحة خفية تجتاح نفسي لأسمع بعدها طرقاً خافتاً على الباب ولتدخل نادين كما دخلت
أول مرة بيدها شمعة لا أدري هل تضئ وجهها أم تضاء منه فحيتني وجلست كما فعلت سابقاً
وجعلنا نتحادث وقد منعني خجلي أن أقول لها أني اشتقت لوجودها، كم أحسست بقصر الوقت
وتمنيت أن يطول أكثر ولكن مع انبلاج تباشير الفجر استأذنت في الذهاب لكي لا يراها أحد
وتواعدنا على اللقاء في المكتبة بعد الإفطار.

تناولنا إفطارنا مبكراً واعتذر لي مضيفي بأنه لن يستطيع الجلوس معي أكثر فهو يشعر بأنه
ليس على ما يرام وسيذهب لحجرته ليرتاح، تمنيت له السلامة والشفاء من وعكته، وكم كنت
ممتناً للوعكة التي ألمت به.

قررت الذهاب إلى المكتبة وانتظار نادين وفي طريقي أوصيت الخادم ليحضر لي فنجاناً من
القهوة ودلفت إلى المكتبة وجعلت أتأمل عناوينها حيث شدني عنوان منها لكتاب مهترئ جداً
اسمه تاريخ الجبرتي واستغرقتني القراءة فيه حتى انتبهت فجأة على صوت نادين وهي تبتسم
وتقول لي يبدو أنك عاشق للتاريخ بحيث تترك كل هذه الكتب وتختار الجبرتي لتقرأ له
فبادرتها بالقول وهل قرأته فضحكت وقالت: لا يوجد في هذه المكتبة كتاب لم أقرأه.

وفي تلك الأثناء دق باب المكتبة ينبئ بوصول الخادم حاملاً القهوة فنظرت إلى نادين بقلق
خشية أن يراها معي فيخبر جدها ولكنها ابتسمت لي مطمئنة، وضع الخادم القهوة أمامي
وحياني بانحناءة منه متجاهلاً وجود نادين تماماً وخرج، فنظرت إليها مستفسراً فابتسمت
وقالت: ببعض النقود يمكنك شراء سكوته تماماً، اطمأننت لتفسيرها وابتسمت بلا تعليق وعاودنا حديثنا بلا انقطاع وسألتها عن عيشها في القصر وعدة أسئلة عن نفسها وسألتها بعد
تردد لو حصل وتقدم لخطبتها شاب متوسط الحال هل ستقبل به عريساً لها؟
ابتسمت ابتسامة غامضة وخفضت رأسها ولم ترد ففهمت منها الموافقة الضمنية على ذلك،
دقت أجراس الساعة الضخمة الثانية ظهراً فقامت نادين مسرعة وهي تقول إنه موعد الغداء
ولا يجب أن يراني جدي هنا ولكني ناديتها وسألتها:
هل تقبلين الزواج بي؟
فنظرت إلي وابتسمت ابتسامة معابثة قائلة اسأل جدي.
طمأنتني إجابتها بموافقتها المبدئية وخرجت من المكتبة إلى حجرة الطعام مصمماً على
مفاتحة جدها وطلب يدها منه وبعد الغداء مباشرة لاحظ الدكتور عزت ارتباكي وتلعثمي
ففاجأني قائلاً:
يبدو لي أنه لديك كلام تريد أن تقوله فما الأمر؟
شجعتني كلماته على الكلام فقلت بعد مقدمة سخيفة:
إنني يا دكتور كما تعلم رجل أعزب ولدي عمل يدر علي دخلاً لابأس به ولدي شقة اعيش فيها
وقد قررت إكمال نصف ديني.
كان الدكتور عزت ينظر لي كمن يقول لي ولم تخبرني أنا بهذا الأمر وما شأني به؟
أنهيت كلماتي بأنفاس متلاحقة كأني كنت في سباق طويل، نظرت إليه وسألته ما رأيك؟
نظر إلي وابتسم ابتسامة متكلفة وقال بلا مبالاة ألف مبروك.
أربكتني لا مبالاته لأقول له متلعثما يا دكتور لقد وجدت ضالتي هنا في بيتك …..
نظر إلي بذهول غير مصدق وقال في بيتي أنا؟ هنا؟ ولكن لا يوجد في القصر كله نساء أبداً …

ران الصمت على المكان وكنت أفكر هل يريد إبعادي عن حفيدته وهل يجدني غير مناسب لها
كان ينظر لي بتحفز وأحس بنظراته تخترقني وتعريني من أفكاري نظرت له قائلاً بصراحة:
يا دكتور لقد قابلت بالصدفة حفيدتك نادين، انتفض في مكانه كمن لدغته أفعى وقال نادين؟
كيف قابلتها وأين؟
استغربت ثورته المفاجئة وقلت له يا سيدي لقد قابلتها بالصدفة وتحادثنا قليلاً، أعرف أن هذا
ربما يزعجك ولا يعجبك ولكن هذا هو ما حصل.

تهالك الدكتور عزت على مقعده وكان ينظر إلي غير مصدق لما يسمع وأكاد أجزم أني لمحت
طيف دمعة لمعت في عينه أطرق أرضاً ربما ليخفيها ثم قام ليغادرني وسط حيرتي وذهولي
بدون أن ينبس ببنت شفه.

وفي موعد العشاء لم يغادر الدكتور عزت حجرته، كنت أحس بضيق شديد وكم كنت أتمنى
لو تظهر نادين فأحادثها وتحادثني ولكنها لم تفعل فدخلت إلى حجرتي محاولاً النوم ولكنه كان
يخاصمني ويأبى الاقتراب مني وبقيت أتقلب في فراشي حتى الصباح.

وفي موعد الإفطار قمت بتبديل ملابسي والنزول إلى غرفة المائدة فوجدت الدكتور عزت وكان
منظره يوحي بأنه لم ينم طيلة الليلة الفائتة حييته بتحية الصباح فرد علي مغمغماً بكلمات
مبهمة وتشاغل عني بتناول افطاره حيث كان يمضغ طعامه وهو شارد الفكر فلم أشأ مقاطعته
وآثرت الصمت، وبعد أن أنهينا طعامنا طلب مني أن نذهب إلى حجرة المكتبة كما طلب من
الخادم أن يوافينا إليها بكوبين من الشاي.

وعندما دلفنا إلى الداخل جلس إلى مكتب أثري جميل وأشار إلي أن أجلس أمامه، ثم نظر
إلي بعمق شديد وقال حدثني عن نادين أقصد صفاتها وطريقة حديثها وعن ماذا تحدثتم، استغربت طلبه ولكنني نفذت ما طلبه مني، دخل الخادم يحمل بين يديه صينية الشاي، وأشار له الدكتور ليضعها من يده وينصرف قائلاً لي:
أكمل حديثك فأكملته حتى انتهيت منه ففتح درجاً في المكتب وأخرج ألبوما أنيقاً للصور وبدأ
بتقليبه حتى توقف عند مجموعة من الصور فأدار الألبوم ناحيتي مشيراً لي أن أتصفح
الصور كان هناك مجموعة من الصور بالأبيض والأسود تظهر فيها نادين مع سيدة أنيقة
ترتديان لباساً يعود إلى حقبة بعيدة ربما يعود إلى فترة السبعينيات.
سألني الدكتور عزت هل هذه هي نادين؟
أجبته بكل استغراب نعم إنها هي
نظر إلي الدكتور بعمق شديد وقال سأقص عليك حكاية قصيرة ثم سأريك شيئاً بعدها وانتبهت
كل حواسي وجلست متحفزاً في مكاني وكأنما ليزيد تشويقي أكثر قام ليصب لنا كوبين من
الشاي ووضع كوباً منه أمامي ثم قال:
قبل ثلاثين عاماً من اليوم ولدت قمر عائلتنا نادين كان والدها ابن أخي يعمل في الخارج
وكانت ابنتي تصحبه في رحلاته وأسفاره المتعددة وعندما كبرت نادين وكانت كما قلت لك
طفلة العائلة المدللة تم إرسالها إلى فرنسا للدراسة هناك، توقف عن الكلام ليرتشف رشفة من
فنجانه ثم أردف قائلاً في سنتها الثانية من الجامعة ذهبت والدة نادين لزيارتها والاطمئنان
عليها وفي ليلة مشؤومة شب حريق في الشقة وهنا سكت الدكتور عزت وهو يغالب دموعه
فقلت متعجلاً لأخرجه من حالته التي هو فيها أنا آسف البقاء لله هل فقدت ابنتك في هذا
الحريق اللعين؟
نظر إلي ساهماً مفكراً ليلقي أمامي قنبلته المدوية التي كانت كالصدمة بالنسبة لي ويقول:
بل فقدت ابنتي وحفيدتي معاً ……

الجمتني الصدمة وكنت أنظر إلى وجهه الجامد والخالي من التعبيرات الآن وانفجرت في
وجهه صائحاً:
لم يكن عليك أن تلفق مثل هذه القصة وتدعي موت حفيدتك، كان بإمكانك أن ترفض خطبتي
لها بدون كذب أو تلفيق، كان ب ……
رفع الدكتور يده في وجهي لأصمت مرغماً قائلاً لي:
اتبعني، قمت من مكاني لأتبعه وكأني منوم مغناطيساً لنخرج من باب المكتبة وسرنا حتى
خرجنا من الباب الخلفي للقصر لأجد أننا في حديقة مشذبة رائعة وسرنا حتى وصلنا إلى
قبرين متجاورين وقال اقرأ اسميهما واقرأ لهما الفاتحة فنظرت إلى شاهد القبر الأول مكتوب
عليه لميس عزت سنجق تاريخ الوفاة 25 / 4 / 1975 ونظرت إلى شاهد القبر الثاني مكتوب
عليه نادين محمد سنجق تاريخ الوفاة أيضاً 25 / 4 / 1975، غامت الدنيا أمام عيني ولم أحر جواباً وكأنني كنت أحلم ولم تعد قدماي تقويان على حملي، فاستندت على سور سياج قبر نادين، لاحظ الدكتور ذلك فأمسك بمرفقي ليقودني إلى الداخل قائلاً هيا بنا فالجو بارد جداً وقد بدأت الأمطار بالهطول.

دلفنا إلى حجرة المكتبة معاً وكان الدكتور قد أوصى لنا بفنجانين من القهوة وجلسنا صامتين
لا يقطع صمتنا إلا صوت أنفاسنا ليدخل الخادم بيده صينية القهوة ويقدم لنا فناجينها وكم
شعرت بالامتنان لهذه الهبة التي ستساعد عقلي على الاسترخاء قليلاً بعد يوم شاق من
التفكير المضني.

كان صوت ارتشافنا للقهوة هو ما يقطع الصمت في المكان حتى نظرت إلى الدكتور وقلت:
ما تفسيرك لزيارات نادين لي في تلك الليالي وجلوسي معها في المكتبة هنا وكأني أجلس فعلاً
معها؟
نظر إلي الدكتور نظرة عميقة ثم قال: ظلت نادين طوال عامين بعد وفاتها تأتي إلي ونتحادث سوياً وكأنها فعلاً على قيد الحياة حتى قطعت زياراتها فجأة بعد أن …..
ثم غامت عيناه فجأة ونظر لي نظرة خلتها مشفقة وصمت بعدها.
فقلت له مستحثاً اياه على الكلام : بعد أن ماذا؟؟
فأشاح بيده وقال لي لا عليك ربما كنت أهذي ثم صمت مجدداً.

احترمت صمته ولم أجد مناصاً من الاستئذان للذهاب إلى غرفتي مجدداً علي أجد قليلاً من
الراحة من هذا الصداع الذي داهمني فجأة، ألقيت نفسي على فراشي لأغط في نوم عميق،
رأيت فيه حلماً وكأن نادين ولميس في شقة تحترق وهما لا تنتبهان للحريق وكنت أصرخ
عليهما لتهربا ولكنهما كانتا مستغرقتان في الحديث فلم تسمعاني، حتى حاصرهما الحريق
فصارتا تصرخان، كانت نادين تمد يدها إلي لأنقذها وأحاول الوصول إليها فلا أستطيع،
صحوت من النوم مفزوعاً يتصبب مني العرق بغزارة وكنت أسعل بشدة وكأني كنت فعلاً في
وسط الحريق لأفاجأ أيضاً بملابسي وقد غطاها الرماد واعتلاها السواد قمت متثاقلاً من
فراشي لأنظر في المرآة وأجد وجهي كالحاً يعلوه السواد.

كدت أجن مما أرى فتهالكت على مقعد هناك ووضعت رأسي بين كفي، وفجأة أصابتني
هستيريا من الضحك عجزت عن مقاومتها، ثم فجأة التمعت عينا نادين وسط الظلام بنظرة
عتاب قاسية لتصيبني نوبة بكاء حادة، لم أكن وقتها أستطيع التحكم بمشاعري بين ضحك
وبكاء، وبعد أن هدأت قليلاً قررت أن أقوم بالاستحمام أولاً ثم مغادرة هذا القصر اللعين بأية
وسيلة ممكنة.

رنت الساعة المعلقة في الحجرة معلنة السابعة مساءً، لم انتبه إلى الساعة وإلى حلول
الظلام إلا الآن، كيف لم يوقظني الخادم لتناول طعام الغداء؟
هل كنت مستغرقاً في النوم إلى هذه الدرجة فلم أسمع دقاته على الباب؟ ربما ……………

دخلت إلى الحمام الملحق بحجرتي ووضعت نفسي تحت الماء الساخن المنساب بغزارة لأغسل
التعب عن جسمي وآثار الحريق التي لم أجد لها تفسيراً.

خرجت منتعشاً وقد قررت الخروج من هذا المنزل وليكن ما يكون، اثناء تصفيف شعري
افزعني صوت ما إنه صوت رنين هاتفي المحمول هل عادت الشبكة إلى الحياة؟
أمسكت به بلهفة وكان المتصل صديقي صلاح الذي بادرني بالقول أين أنت يا رجل؟
لقد قلقت عليك جداً وكنت أبحث عنك منذ ثلاثة أيام مضت ولم يمكنني الاتصال بك أين أنت؟
قصصت على صلاح كل ما مر بي من أحداث ولكنه لم يصدق ذلك وقال هل تختلق لي قصة
وتفترض مني أن أصدقها؟
قل لي أيها الماكر مع من كنت خلال هذه الأيام الثلاثة وأين؟
وسأكتم سرك ولن أخبر به أحداً.
أقسمت له أنها الحقيقة وليأت الآن ليأخذني فأعصابي لم تعد تحتمل أكثر.
لاحظ صديقي نبرة الجدية في صوتي فطلب مني أن أهدئ من روعي وأصف له المكان فلما
قلت له أني في قصر سنجق هتف قائلاً:
أعرفه جيداً فهو ضمن منطقة اختصاصي.
نسيت أن أخبركم أن صديقي صلاح يعمل في دائرة الآثار وهو مسؤول عن بعض المناطق
الأثرية والقصور ولكن لم يسبق خلال حديثنا أن تطرق ولو لمرة واحدة في حديثه إلى هذا
القصر.

قررت في هذه الأثناء أن أنزل إلى الطابق السفلي لأودع الدكتور عزت وأشكره على حسن
ضيافته وأن أخبره عن عزمي على المغادرة، كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساء، دلفت إلى قاعة الطعام فلم أجد أحداً، فذهبت إلى المطبخ وكان خالياً، حجرة المكتبة لم يكن بها أحد، انتابتني الهواجس والظنون وناديت بأعلى صوتي عل أحد يجيبني فلم أحر جواباً، يا إلهي ما الذي يحدث؟

صعدت درجات الطابق الثاني أطرق كل حجراته كالمحموم وأفتحها أفتش فيها فلم يكن هناك
أحد، وكأن القصر قد غاضت فيه كل معالم الحياة واختفت، وكأنه لم يكن قبل ساعات يضج
بالحياة، نزلت إلى الطابق السفلي أجر أذيال خيبتي بانتظار صلاح صديقي، ولم تمض سوى
نصف ساعة حتى سمعت صوت سيارة تقف بالباب، فقمت لأفتح الباب لأجد صلاح يقف هناك
ووراءه حارسا أمن.

كان وجهي ممتقعاً جداً مما جعل صلاح يبتلع سخريته وينظر إلي بهلع، أما الحارسان فكانا
ينظران إلي نظرتهما إلى شبح أو لجثة خارجة من قبر، وبعد فترة صمت تشجع أحدهما
ليقول بصوت مرتعش:
كيف دخلت إلى هنا ومن أين دخلت؟
كنت أنظر له كالأبله وأجيل نظراتي بينهم حائراً، ولم يخطر ببالي سوى سؤال الحارس:
من أنت أصلاً؟
فأجاب أنا وزميلي حارسا القصر وأنا متأكد أنه لم يدخل أحد إلى هنا فأجبته:
ولكنني دخلت من بوابة القصر ولم يكن هناك أحد.
علا صوت الرجلان ليؤكدا لي ولصلاح أنهما في حراستهما للقصر منذ ثلاثة أيام ولم يغادرا
مكانهما وهما موجودان دائماً في كوخ الحراسة وتقرير مفتش الحرس يثبت ذلك، التقطت
الكلمة منهما وقلت أي كوخ؟

عندما حضرت إلى هنا كانت الدنيا تمطر بغزارة ولم يكن هناك أي كوخ أو أي حرس، ربت
صلاح على كتفي مهدئاً قائلاً بحسم: تعال معي ……
خرجنا من باب القصر ليفاجأنا كوخ للحراسة يقف هناك شامخاً على بوابة القصر، من
المستحيل أن تخطئه عين أو يمر أحد عنه دون أن يراه، كما سارع صلاح بفتح سجل تفقد
الحراسات ليريني إياه وأرى أنه لا يوجد تغيب طوال الأيام الماضية، نظرت إليه بحيرة وقال
لنذهب إلى الداخل ونجلس هناك، دلفنا إلى داخل القصر مرة أخرى وجلسنا بداخله وكنت
مشتتاً لا أدري ما الذي حصل طوال الأيام الماضية، طلب مني صلاح أن أقص عليه القصة
منذ بدايتها وكان بيده دفتر صغير يدون فيه بعض الملاحظات.

وعندما انتهيت من رواية القصة فتح كتاباً كان معه وطلب مني تصفح بعض الصور فيه حتى
وصلت إلى صورة الدكتور عزت فأريتها له وقلت له ها هو مضيفي في القصر، نظر صلاح
إليها بتمعن وهز رأسه ثم أغلق الكتاب من يده وقال لي هل نذهب لرؤية القبور التي قلت لي
عنها؟
قلت له في مثل هذا الوقت من الليل؟
فأومأ لي بإصرار أن نعم وأخرج من جيب سترته كشافاً يدوياً وقال مازحاً:
يجب أن تكون محتاطاً دوماً لأي ظرف.

لم أجد مناصاً من الخروج معه وسرنا متجاورين إلى قرب القبرين الذان رأيتهما سابقاً
ليضيء كشافه ويقرأ شواهدهما ويهز رأسه، ولكن لفت نظري في الجهة المقابلة وجود قبر
لم يكن موجوداً سابقاً فطلبت من صلاح أن يعطيني مصباحه لأرى شاهد القبر وكم كانت
دهشتي عظيمة إذ قرأت مكتوباً عليه:
الدكتور عزت سنجق تاريخ الوفاة 26 / 3 / 1977!

نظرت إلى صلاح الذي كان يقف إلى جانبي في تلك اللحظة فنظر إلي قائلاً:

هذا هو تاريخ الوفاة المذكور في الكتاب هيا بنا لنذهب من هنا، وسبقني صلاح ليحضر دفتره والكتاب لتند عنه صرخة جعلتني أركض إلى حيث كان متسمراً في مكانه وأصبعه متشنج يشير إلى دفتره وعندما نظرت هناك وجدت صورة فوق الكتاب، لم يحتج لي الأمر مزيد عناء لأعرف أنها صورة نادين فقلت له: هذه الجميلة هي نادين.
أخذ الصورة من يدي ليتأملها وقال:
كانت فاتنة الجمال يا حبيب الشبح وقلب الصورة في يده ليرتعش لوهلة ويريني ما هو مكتوب عليها:
مع محبتي لك يايوسف
التوقيع نادين.

أشار إلي صلاح بيده قائلاً: لنغادر منزل الأشباح هذا بسرعة فلم أعد أحتمل وفي طريقنا
مررنا بكوخ الحراسة فألقينا على الحارسين التحية على عجل وركبنا سيارة صلاح ولم تمض
دقائق حتى كنا قرب سيارتي.

نزلت لأشغل محركها فدار فوراً بدون عناء ولم يقاوم التشغيل حتى ليثبت أنه قد توقف فجأة.
نظرت إلى صلاح مبتسماً فهز كتفيه وابتسم وأشار لي لأتبعه.
مررت بقصر سنجق في طريقي لأتمهل وألمح على ضوء كوخ الحرس هناك في الفراغ نادين
تبتسم لي وتلوح لي مودعة.
وصلت إلى منزلي متعباً مرهقاً أبحث عن الراحة والنوم فقط، ودخلت إلى حجرة النوم وعند
إضاءتي لضوء الحجرة لفت نظري رسالة موضوعة على جانب السرير وعندما فتحتها هالني
ما قرأت فقد كان مكتوبا فيه:

عزيزي يوسف:
كم كنت أتمنى لو كنت حقيقة تجلت لك ولكني كنت سراباً ووهماً
سعدت جداً بوجودك وتمنيت لو استطعت أخذك معي بعيداً ولكن من يدري ربما نلتقي في يوم ما.


سأنتظرك
التوقيع
نادين

إقرأ أيضًا: رحلة إلى وادي عبقر – عودة الزعفران بن العطار

Share this post with friends!

منصة الكترونية لنشر المقالات باللغة العربية. يسعى موقع فنجان الى اثراء المحتوى العربي على الانترنت وتشجيع الناس على القراءة

0 thoughts