سقوط غرناطة – صفحات من التاريخ – الصفحة الحادية عشرة

[faharasbio]

سقوط غرناطة

بعد انهيار سلطان الموحدين بالأندلس على أثر هزيمتهم في موقعة العقاب أخذ الإسبان في الاستيلاء على مدن الأندلس العريقة الواحدة تلو الأخرى.. وفقدت دولة الإسلام بالأندلس معظم قواعدها الكبرى مثل قرطبة وشاطبة في فترة قصيرة لم تزد عن ثلاثين عاماً فقط.

وانحصرت دولة الإسلام في الأندلس في مملكة أشبيلية ومملكة غرناطة، التي أسسها زعيم عربي، أبرزته الأحداث حينذاك، وهو محمد بن يوسف بن محمد بن نصر الخزرجي، المعروف بابن الأحمر. حيث صارت هذه المملكة الصغيرة ملجأ لكثير من مسلمي الأندلس، وعلى رأسهم الكثير من سادات البطون العربية الذين سقطت مدنهم الأصلية في أيدي الصليبيين.

وقد انحاز أكثر هؤلاء لغرناطة وهم موتورون حانقون على الصليبيين. وكان منهم العلماء والأدباء والصناع والزراع وأرباب المهن والحرف فاستفادت غرناطة من خبراتهم ومهاراتهم وعمرت بهم عمراناً حافلاً، وازدهرت فيها حضارة رفيعة تناولت الجوانب المتعددة في العلوم والآداب والصنائع والعمران. بالإضافة إلى استمرار التقاليد الزراعية والتجارية على نشاطها ونموها. وذلك رغم استمرار تيارات الهجمات الصليبية من قبل الدول الثلاث القشتالية – الأرغونية – البرتغالية، للقضاء عليها، بدعم وتحريض الباباوات في روما.

وقد استمرت هذه المملكة قائمة، في وسط هذه التحديات لأكثر من قرنين ونصف من الزمان، ويرجع صمودها، طوال هذه الفترة، إلى حمية المسلمين الذين أفاقوا متأخرين جداً للدفاع عن آخر معاقل الإسلام في الأندلس، من جهة، وإلى وجود قيادات قوية وعلى مستوى المسؤولية نسبيًا على رأسها، من جهة ثانية. وإلى النجدات العسكرية التي كانت تصلها من ملوك بني مرين، حكام المغرب، من جهة ثالثة – والعامل الأخير كان أهم العوامل الثلاثة على الأطلاق. ولكن شيئاً فشيئاً ضعفت سلطة بني مرين في المغرب، وانشغلوا بالحروب الداخلية مع الخارجين عليهم، عن نصرة مسلمي الأندلس.

مملكة غرناطة

وفي نفس الفترة بدأ الإسبان في توحيد رايتهم، واجتمعت مملكة ليون وقشتالة تحت راية واحدة سنة 1469. وذلك بعد أن تزوج فرديناند ملك ليون وأراجون إيزابيلا ملكة قشتالة.

لنتحدث عن غرناطة أولًا

حيث ركن فيها السلطان “أبا الحسن” في أواخر أيامه إلى أهوائه واقترن بفتاة نصرانية رائعة الحسن تعرف باسم “ثريا” الرومية وقد هام بها واصطفاها على زوجته الأميرة عائشة التي عُرفت عندئذ بـ”الحرة” تمييزًا لها عن الجارية الرومية أو إشادة بطهرها ورفيع صفاتها.

كانت ثريا فضلاً عن حسنها الفائق شديدة الدهاء والأطماع وتمكنت من السيطرة علي أبو الحسن الذي كان قد شاخ وأثقلته السنون وأصبح أداة سهلة في يديها فاستأثرت بالسلطان والنفوذ، واستخدمت كل السبل من أجل إقصاء عائشة الحرة وولديها محمد ويوسف عن كل نفوذ أو حق في الملك وكان أكبرهما أبو عبدالله محمد ولي العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة وكبارها يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك على أولاد النصرانية.

ولكن ثريا لم تيأس فما زالت بأبي الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها وأقصى عائشة الحرة وولديها، بل زاد الأمر إلى الحد أن أمر أبو الحسن باعتقال عائشة الحرة وولديها والزج بهم في سجن برج قمارش أمنع أبراج الحمراء وشدد في الحجر عليهم وعوملوا بمنتهي القسوة فأثار هذا التصرف الأرعن غضب الكثير من كبار الأمراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها، وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين أحدهما يؤيد الأميرة الحرة ويرفض سجنها مع ولديها وفريق يؤيد السلطان وحظيته ثريا الرومية التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية واستأثرت بكل النفوذ والسلطة وذهبت في طغيانها إلى أبعد حد فحرضت الملك الشيخ على إزهاق روح ولده أبي عبدالله عثرة آمالها.

إلا أن الأميرة عائشة الحرة كانت إمرأة قوية وافرة العزم والشجاعة لم تستسلم إلى قدرها الجائر فقد عقدت العزم على الهرب والنضال لإسترداد ما تراه حقها وحق إبنها وعمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها وفي مقدمتهم بني سراج أقوى أسر غرناطة وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة ..

وقد استطاعت الأميرة بمساعدة بعض أصدقائها المخلصين الهرب مع ولديها فأخذت بقماش الفراش وربطته علي هيئة حبل أنزلت أحد أبنائها بواسطته إلى الأسفل ثم أنزلت إبنها الآخر، كما أنها نزلت بواسطته بعد أن ربطته في أحد الأعمدة لديها، وكانت قد أعدت فرسين لنقلهما خارج المدينة تحت جنح الليل فتم لها ما أرادت وتحررت من المعتقل وسارت إلى وادي آش وأعلنت الدعوة لإبنها أبي عبدالله محمد.

وكان أبو الحسن في أحد غزواته وبعد عودته وجد أن الأمر قد تغير فقد مال الناس إلى أبي عبدالله لما لحق به من ظلم بسبب عشق والده الشيخ لتلك الفتاة الرومية ففر أبو الحسن إلى مالقة ولم يغفر أبو الحسن لبني سراج هذا الموقف قط ويقال أنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم في أحد أبهاء الحمراء، وجلس أبي عبدالله محمد الملقب بالصغير مكان أبيه على عرش غرناطة أواخر عام 1482م وأطاعته غرناطة وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه وكان أبي عبدالله يومئذ فتي في نحو الخامسة والعشرين.

واعتقد النصارى أنه سيسلم مفاتيح غرناطة دون مقاومة وحرضت عائشة الحرة ابنها على المقاومة والجهاد. وبالفعل استجاب أبو عبد الله الصغير وأظهر بعض البطولات، ولم يظل طويلًا في الحكم، فقد وقع أسيرًا بيد النصارى في إحدى المعارك التي هُزم فيها جيشه، في أبريل 1483. فآل الأمر في غرناطة لعمه الأمير محمد أبي عبد الله “الزغل ” حاكم مالقة، وكان أكفأ منه، وأقدر على إدارة شؤون المملكة وتنظيم الدفاع عن أطرافها.

وفي الوقت الذي جلس فيه الزغل على عرش غرناطة، كانت هناك مفاوضات حثيثة ومشبوهة تجري في السر لإطلاق سراح الملك الأسير، دعت إليها أمه الأميرة عائشة، وتولاها الوزير يوسف بن كماشة، رجل المهمات السرية “القذرة”. وقد انتهت تلك المفاوضات بعقد اتفاقية سرية بين الطرفين قضت بإطلاق سراح أبي عبد الله الصغير مقابل تعهده بما يلي:

أولًا: يدفع المسلمون سنويًا مائة ألف دينار ذَهَبًا لإسبانيا..

ثانيًا: تُوجه الدعوة لابن نصر في كل مرةٍ يجتمعُ فيها ملك إسبانيا مع ولاته أيّْ أنه والٍ من ولاة الملك.

ثالثًا: يحارب بن نصر بجيش غرناطة مع جيش إسبانيا حتى ولو كانت هذه الحرب ضد المسلمين وهذا ما حدث عندما طلب ملك إسبانيا أن يحارب – بن نصر- معه لإسقاط إشبيلية، وبالفعل سقطت إشبيلية وعاد بن نصر إلى غرناطة بعد إنتهاء الحرب، وهو المنتصر المنهزم والناس يصيحون بن نصر هو الغالب بن نصر هو الغالب، فينظر إليهم ويقول في حزن وأسى لا غالبَ إلا الله، وكأنه يعلم أن السقوط قد حان.

وما أن عاد أبو عبد الله الصغير إلى وطنه حتى قامت الفتنة بينه وبين عمه الزغل، وكان ذلك في أوائل سنة 1486. واستمرت الحرب سجالًا بين الطرفين عدة أشهر، وأخيرًا رجحت كفة أبو عبد الله الصغير على عمه بمساعدة عسكرية من فرناندو ملك النصارى، فتبوأ عرش مملكة غرناطة من جديد في أبريل 1487. بيد أن شطرًا منها – وادي آش وأعمالها – ظل بيد عمه أبو عبد الله الزغل. وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة من تمزيق البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيدًا للقضاء عليها.

وفي غضون ذلك كثف الإسبان غاراتهم على معاقل الإسلام الواقعة تحت حكم الزغل، فانتزعوا ثغر مالقة في أغسطس 1484، وكانت أهم معاقل المسلمين المتبقية بعد غرناطة. وبسقوطها حُرم الأندلسيون من كثير من الإمداد والغوث التي كانت تأتيهم من وراء البحر. ولم يكن باقيًا بعد ضياع جبل طارق ومالقة من الثغور بيد المسلمين سوى المنكب وألمرية، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعين والمجاهدين من المغرب.

وكان لا بد من الاستيلاء عليهما لقطع صلة الأندلس نهائيًا بالمغرب. فسقط الأول في ديسيمبر1489، وسقط الثاني بعد ذلك بشهرين فقط، وعن طريق الخيانة والرشوة آلت إلى قشتالة النصرانية جميع المعاقل والحصون التي كان يحكمها أبو عبد الله الزغل، وبالتالي لم يعد أمامهم سوى الاستيلاء على غرناطة آخر القواعد الباقية بيد المسلمين.

وفي هذه الفترة الحرجة والعصيبة والحالكة من تاريخ الإسلام في الأندلس ظهر فارس غرناطة. “موسى بن أبي الغسان الغساني”، فمن هو هذا البطل؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله. 

[ppc_referral_link]