قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} سورة البلد.
معنى الكبد: هو التعب والمشقّة، فالإنسان خلق ووجد في هذه الحياة ليصارع فيها ويكابد أمر الدنيا والآخرة، يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء، ولا يوجد فى هذه الحياة إِنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته، وهو فى نصب وتعب للحصول على آماله ورغباته وغاياته، وهو في تعب ونصب منذ ولادته، فحركة حياته في كل مراحلها نصب وتعب وعناء وشقاء جسدياً ونفسياً، صراع الحياة كبد وكرب وهمّ حتى وإن كان ظاهرها ترف ورفاهية وسعادة وثراء وثروة ورغد عيش، لكن كل ذلك قد يكون قشرة وهم واهية أو هي مثل سراب بقيعة تخطف الناظر أو كسحاب صيف سرعان ما ينقشع ويختفى، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها حتى يموت، فإذا مات كابد شدائد القبر والبرزخ وأهوالهما، ثم شدائد الآخرة.
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)} سورة النساء.
إن ضعف الإنسان هو أصل كيانه الجسدي والنفسي، بل إن ضعفه أَعظم من ذلك: فَهو ضعيف البنية، وهو ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، إن الطبيعة البشرية المجبولة على الضعف والوهن مهما علت النفوس وتكبَّرت، فهي في حقيقتها ومآلها ضعيفة لا تقوى إلا على ما يناسبها ويشاكلها.
المراد بضعْف الإنسان: أنه ضعيف في أصل خلقه، وأنه خُلق من ماءٍ مهين. وأنه ضعيف لقلة صبره وأنه ضعيف العزم عن قهر الهوى، فالإنسان ضعيف النفس بسبب نوازع الخير والشر المخلوقة فيه، إلى جانب الوساوس والأهواء التي تعرض له، وهو ضعيف البدن بسبب ما يعرض له من الآفات والأسقام، وبالمقارنة مع كثير من المخلوقات عظيمة الخلق، فهو ضعيف البنية، قدراته محدودة، تحقق له النجاح والإبداع لكن في حدود المنظور والمحسوس في هذا الكون، كما أنه ضعيف في المشاعر العاطفية والانفعالات النفسية، قد تلازمه حالات تثير فيه الحزن والبكاء والعويل، وقد يتملكه الخوف والهلع، وقد تنتابه مشاعر القلق والاضطراب والانطواء، وقد يتمكن منه الغضب والعدوان والحقد والحسد، وقد يثلج صدره ويغبطه فرح وحبور وبهجة وسرور وترتسم ملامح السعادة على محياه.
تلك هي النفس البشرية وهي هبة من الله، كرمه الله بها وميزه، وهي مكنون عميق ليس من اليسير سبر أغوارها وفهم كل مكنونها وخباياها، وليس من السهل استجلاء كل بواطن التعقيد والأسرار في جوانبها المحيرة والمدهشة، وهكذا فالنفس في القرآن تدل على الذات الإنسانية وتشير إلى عنصر الدوافع والنشاط الحيوي أكثر من دلالتها على المعنى الواعي، وهي لفظ عام يشمل الإنسان كله ولا يختص بالدلالة على التفكير أو الفهم.
والنفس التى نعني بها الإنسان وفعالياته ونشاطه لها علامات وسمات كثيرة أوردها القرآن الكريم فكانت أعظم تحليل لتلك النفس، كيف لا يكون أعظم تحليل والذي أخبرنا بذلك هو خالق النفس وموجدها من العدم، العالم بكنهها وأحوالها ولا يخفى عليه شىء من أمرها ظاهرًا وباطنًا، وقد أعانني الله وألهمني إلى شرح تحليل شامل في كتابي (الروح والعقل والنفس)، أحط به بما فتح به الله علي من فهم واستيعاب لأحوال النفس وكما أورده الله في كتابه العزيز.
وبعيدًا عن الاسهاب والتطويل أخلص في هذا المقام إلى أن آدم عليه السلام أبو البشر، إنسان سوي يحب الخير ويؤمن بالله أودع الله في تكوينه فطرة إيمانية، ثم تناسل البشر من هذه البذرة الطيبة وتعاقبت الأجيال بما تحمله البذرة من صفات الخير والشر.
والفطرة الإيمانية توجه الإنسان نحو بارئه تعلو به للسمو والرفعة، يهفو بها بنظره للسماء يبحث عن آثار مبدعه ويرنو بهذه الفطرة الصافية للتعرف على خالقه، وهي نفسها مبعث كل خير وصدق وأمانة وإحسان بالنفس الإنسانية، إنها وميض كامن خفي في أعماق النفس يشع دائمًا بنور الإيمان، إنها الحصن المتين الذي تصطدم به دوافع الشر، وهي قوة تقاوم بها النفس الهوى، بهذه الفطرة يتصل الإنسان بعالم البقاء وسر الوجود الدائم، بها تميز الإنسان وبها اختصه الله، بها يعلو على نفسه ويعلو على عقله بروحه، فلا يرى غير الفضيلة مبدأ، ولا يختار غير الخير بديلا.
إن الفطرة الإيمانية تؤكد أن الإنسان طيب الأصل نقي السجية سليم الفطرة قويم الكينونة، إنها أصل الصفات الطيبة وهي الأصل في السلوك السوي، أما صفات الشر والهبوط التي قد تطفو على صفحة النفس وتطبع الإنسان أحيانًا وتغاير حقيقته وتشوه فطرته الطيبة، فهي طارئة تلازمه في لحظات ضعفه وغفلته ونسيانه وانقياده، وظهورها يؤكد وهن وضعف قواعد الفطرة الإيمانية وانحراف الطبيعة السوية.
وفطرة الإيمان صفة مشتركة بين جميع البشر يحس بها كل فرد في لحظات سكينته مع نفسه، بها تأهل الإنسان ليكون خليفة لله في الأرض، وبها نال كمال التشريف وأعطي بسببها القدرة على الارتقاء في حب الله وعبادته، فالارتقاء يكون في أعظم معانيه كلما اتصل بمصدر تلك النفخة الإلهية الطاهرة واستمد منها نور الهداية والصلاح، ويهبط الإنسان إلى حضيض مراتب الارتقاء حين يبتعد عن مصدر النفخة.
فطرة الإيمان هي جوهر الإنسان وهي الهداية الدالة، وأعني أنها الدلالة العامة التي تضع الإنسان على مفترق طريق النجاة أو الهلاك، بإرادته يختار بين الضدين ويسلك أحد السبيلين. هي المنبه والواعظ، تبصّر الإنسان بالمصير والمآل ، وتنهاه عن طريق الضلال. إنها هداية الإيصال، توصل العبد وتدله على طريق الحق وتعينه على دفع الشر، إنها الهداية الدالة التي يتعرف بها العبد على ربه وتبقيه على صلة بخالقه تعبدًا وطاعةً واستغفارًا. قال تعالى {مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} سورة الإسراء.