رحلة إلى وادي عبقر
يجافيني النوم هذه الليلة لا اعرف ما الذي يحدث
الرغبة في النوم، ولكنني لا استطيع. الجو حار خانق وجيوش البعوض تشن غاراتها
الناجحة على كل أجزاء جسمي، ليزيد غضبي وأرقي والمروحة اللعينة كأنها اتفقت معهم على
إزعاجي وإقلاق راحتي، أحسها تقتلني بلهيبها وتجمع جيوش الأعداء من البعوض وتنظم
صفوفهم ثم ترسلهم لي أفواجًا أفواجًا، عقارب الساعة تشير إلى الثانية ليلًا ولا نوم يأتي.
أغادر حجرتي متسللا على أطراف أصابعي إلى المطبخ لأعد فنجانا من القهوة عله يساعدني
على النوم، أجلس متهالكا على كرسي أحتسي القهوة، وفجأة تغيم الرؤيا خلف دخان متصاعد
وضوء ساطع يجبرني على أن أغلق عينيّ بقوة وكأن هناك من يثبتني على الكرسي فلا أقوى
على الحركة، وأغرق في دوامة لا أدري ما كنهها وكأني أهبط في قرار بئر عميق، فأفتح
عينيّ مجددا لأجد نفسي في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء. يدي تمسك بخطام ناقة
أقودها، أنظر إلى نفسي ألبس ملابس غريبة عني، أتلفت حولي وأصرخ وأصرخ فيرتد لي
صدى صوتي يصفعني ببرود ما الذي يحدث وأين أنا؟
الشمس حارقة والعرق الغزير يتصبب مني ويغرقني، أحادث ناقتي وأحسها تألفني مع أنني
لأول مرة ألتقيها أبتسم وأتذكر بيت الشعر القائل:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
بدأت الشمس تغرب والنجوم تظهر وبدأت أحدد اتجاهي في الصحراء عن طريق النجوم
وكأنني بالفعل ابن الصحراء والعالم بخباياها ودروبها، وبعد فترة أنخت راحلتي لأرتاح
وترتاح معي وأشعلت النار، ومددت يدي في خرجي الذي أنزلته عن الراحلة، والغريب في
الأمر أني أعلم ما بداخله وكأني وضعته بنفسي، وأخرجت منه ما آكله. بعدها وضعت قهوتي
على النار، وأخذت أترنم بتلك الأبيات الشهيرة لعنترة وأسلي ليلي بها واتجهت لناقتي ألقيها
على مسامعها:
حكم سيوفك في رقاب العذل
واذا نزلت بدار ظلم فارحل
وإذا الجبان نهاك يوم كريهة
خوفا عليك من ازدحام الجحفل
فاعص مقالته ولا تحفل بها
وأقدم إذا حق اللقا بالأول
ليأتيني صوت عبر الصحراء أجفلني مرددًا:
واختر لنفسك منزلا تعلو به
أو مت كريما تحت ظل القفصل
فالموت لا ينجيك من آفاته
حصن ولو شيدته بالجندل
موت الفتى في عزة خيرله
من أن يبيت أسير طرف أكحل
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل
كنت أقف متحفزًا قابضًا بيدي على خنجري تجوس عيناي خلال الظلام متوجسًا مترقبًا،
والصوت يقترب أكثر وأكثر، حتى لاح لي ورأيته على وهج النيران رجل طاعن في السن ذو
لحية بيضاء ولكنه يبدو قوي البنية شديدها.
بادرني مسلمًا فرددت السلام عليه وسألته من أنت؟ وكيف جئت؟ ومن أين أتيت؟
كنت أسأله تلك الأسئلة وأنا مستغرب من نفسي أني أتكلم العربية بلهجة صحيحة لا اعوجاج
فيها فأجابني: هون عليك ولا ترع يا ابن أخي فقد شممت رائحة قهوتك وأحببت أن أشرب
فنجانًا معك فأشرت له مرحبًا أهلًا بك يا سيدي ولكن أخبرني من أنت؟ وماذا تفعل هنا في
هذه الصحراء؟ ثم أين أنا؟ ………
سنشرب القهوة وأجيبك عن كل ما سألت عنه
قدمت له القهوة في فنجان جميل فأداره في يده وابتسم ابتسامة لم تخف علي.
وبعد أن جلست أمامه متحفزًا لسماع كلماته نظر إلي مبادرًا من أنت وما الذي أتى بك إلى
أرضنا فقلت له بل أنت قل من أنت وما هي أرضكم فلمعت عيناه ببريق عجيب أشعرني
أنه لم يعجبه أن أرد السؤال بسؤال ولكنه ابتسم متجاهلًا أسئلتي له ولوح بالفنجان
في يده ماذا تسمون هذا الشيء عندكم؟
ومن الذي يصنعه؟
فقلت له متجنبًا غضبه اسمه فنجان ويصنع في الصين فضحك مقهقها هل تعرف ما قصة
الفنجان ومن أين أتى له هذا الاسم فهززت رأسي نافيًا من أين لي أن أعرف يا سيدي ولكن
قبل أن تروي لي قصة الفنجان عرفني عن نفسك أولًا فضحك طويلًا وقال يبدو أنك لا تنسى
سأعرفك على نفسي اسمي هو …… الزعفران بن العطار
وأنت الآن يا صديقي في وادي الجن المسمى وادي عبقر وقد دخلت هنا بلا استئذان ملوك
الجان وهذا مما يستوجب العقاب فانخلع قلبي عندما دار بخلدي أني أحادث نفرًا من الجن
وتمالكت نفسي ولكنه لاحظ بعين الخبير ارتباكي ولم يعلق وسألني: والآن بعد أن عرفتك على نفسي هلا عرفتني على نفسك فقلت له: أنا مروان بن خنفر من فلسطين، لاحظت تغيرتعبيرات وجهه عندما قلت له عن اسمي، وقال أهلًا بأخا العرب الشامي فقلت: أهلا بك يا سيدي فأردف قائلا ما الذي أتى بك إلينا ولم دخلت أرضنا بلا استئذان فقلت والله يا سيدي إنما جئت إلى هنا رغمًا عن إرادتي فقد كنت جالسًا في بيتي وفجأة وجدت نفسي هنا في لباس
غريب ومكان غريب ومعي هذه الراحلة فهز رأسه متفهمًا وقال هو يريدك ولم يتركني أسأل
من هو فقد قال بسرعة: سأحكي لك بعض القصص ثم أسألك بعض الأسئلة وبعدها ننطلق
للقائه فقلت بنفاذ صبر ومن هو فنظر لي محذرًا قائلا ستعرف كل شيء في وقته.
نلقاكم مع قصة الفنجان في المقال القادم، من كتابي رحلة إلى وادي عبقر وقصص أخرى.