قصة عقلي يغادرني من كتاب رحلة إلى وادي عبقر
عقلي يغادرني – رحلة إلى وادي عبقر
هذه الصورة وصلتني منذ فترة طويلة، ضحكت منها وتفكرت إذا كان
جميع مواليد هذه الأشهر ولدوا خلال 12 شهرًا جميلًا من السنة فمتى
ولد الخونة والمنافقين؟
متى ولد المخادعين والكاذبين؟
متى ولد الطغاة والبغاة؟
متى ولد كل أصحاب الصفات السيئة؟
ترى هل يوجد أشهر في السنة لا نعرفها وأخفيت عنا؟
سؤال أرّقني واحترت فيه!!
ولشدة دهشتي قفز عقلي من مكانه، وسحب كرسيًا ليجلس قبالتي وثم ليغيظني أكثر، سحب
من تلافيفه لفافة تبغ وأشعلها ونفث دخانها في وجهي، وخطر لي أن أصفعه لوقاحته
فكيف له أن يدخن أمامي، ولأنه يقرأني جيدًا بادرني بالقول:
دع عنك هذه الأفكار البالية واشرح لي كيف ولد أبناء الكلب هؤلاء.
وربما لأقنعه بالخلود للنوم والراحة اختلقت له قصة أنا نفسي غير مقتنع بها فقلت له:
أعتقد والله أعلم أن كل أصحاب تلك النفوس السيئة لم يولدوا مثلنا إنما هم كانوا بذرة
شيطانية كانت في بطن الأرض فلما فاضت كل مجارير الصرف الصحي نبتوا وزاد زرعهم.
فضحك مني ساخرًا ورمى لفافة التبغ اللعينة أرضًا وقال: مع أنك لم تقنعني ولكن نم يا
صديقي فربما يأتيك بعض زوار الليل من أبناء هذه البذرة فخذ كفايتك من النوم وتزود
بالكثير منه، أما بالنسبة لي فلن تراني بعد هذا اليوم، فاجأتني ردة فعله واستوقفته صائحًا
الى أين أنت ذاهب يا عقلي؟
فنظر إلي شذرًا وهو يقول: ذاهب لأبحث لي عن جسد وثير، أعيش فيه مثل أمير، يكون
مواليًا جدًا، ولا يتعبني أبدًا في التفكير، أقول لك لقد تعبت منك، ومن سهرك، ومن
أرقك، نم يا صديقي هانئًا ولا تبحث فلن تجدني أبدًا.
ترى هل سيعود يومًا لي؟
ما رأيكم دام فضلكم؟
وعاد لي عقلي
منذ ذلك اليوم الذي غادرني فيه عقلي وأنا أنام ملأ عيني، أملأ بطني كثيرًا، وأضحك ملأ
شدقي، غادرني حزني واكتئابي، لم يعد يعنيني قلمي وكتابي، لم أعد أسمع نشرة الأخبار، لم تعد تعنيني من الدم بحار، لم أعد أفتش عن كل الأسرار، من يحادثني أصبح يدهش
مني ويحار، أصبحت بعيدًا عن الكيمياء التي بخرت عقلي وصهرته وجمدته وفتتّه،
أصبحت بعيدًا عن الأشعة الضارة والمحاليل الحارة، لم أعد أذهب إلى عملي ولم يعد
يعنيني، وللحقيقة أقول لكم حتى هاتفي الذكي استبدلته بجده القديم فلم أعد أريد هاتفا أذكى
مني.
أحسست أني أصبحت أميرًا أنعم بالدعة والراحة، حتى أنتم لا أرغب برؤيتكم
أصدقائي القدامى الجدد، من يرغب في سماع شعركم أو قراءة قصصكم ولو حصل وقرأتها
كيف أصل إلى عقولكم النيرة وكيف أفك طلسمها؟ أصبحت بلا عقل يشغلني ويتعبني، فالحمد لله على نعمة اللا عقل.
ولكن بعد خمسة أيام سعيدة وفي ليلة وأنا أهنأ بنومي وأتقلب في فراشي صحوت فجأة على إحساس غريب، أحس أن هناك من يراقبني وتكاد نظراته تخترقني، تجمدت في فراشي محاولًا تبين شيء في الظلام ولكن عيناي لم تسعفاني، وشعوري يزداد بأن هناك من يراقبني، ترى أهو إنس أم جان؟ ملاك أم شيطان؟
مددت يدي بحذر وتوجس أتحسس مفتاح الضوء لأشعله وجحظت عيناي وأنا أشاهده جالسًا
أمامي يضحك باستهزاء، إنه عقلي القديم لن أخطئه حتى لو كان يلمع أكثر، ونظيفًا أكثر،
حتى لوكان يلبس بزة راقية مثل أبناء الذوات، حتى لو كان يتكلم بتعالٍ أكثر، ولكني أبدًا
لن أخطئ وقاحته وتأكدت منه أكثر عندما حدثني قائلًا:
كيف حالك يا صديقي؟
فأجبته حانقًا: ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت أيها اللعين؟ فقال: كنت مارًا بالجوار
فأحببت أن أسلم على صديقي القديم وأشرب فنجانًا من القهوة معه، قلت: قهوة وفي مثل
هذه الساعة أيها النحس؟ فضحك مقهقهًا وقال: ومتى كان للقهوة عندك وقت؟ يبدو أن أخلاقك قد ساءت من بعدي، قلت بل تحسنت يا صديقي فقد أصبحت آكل وأشرب وأنام ولم يعد يعنيني أي شيء،
أصبحت بدونك سعيدًا جدًا، فقال لي بنبرة قلقة لم تخف علي وأنا الذي أعرفه منذ عمر طويل
هل حقا ما تقول؟
فهززت رأسي مؤكدًا وسألني: هل توقفت عن زيارة طبيبك النفسي؟
فقلت له ببرود متبرمًا من يسمعك يعتقد أنك غادرتني منذ مئة عام وليس منذ بضعة أيام
على العموم نعم فقد توقفت عن زيارة طبيبي النفسي عندما تأكدت أنه شفي تمامًا ……
سأجهز القهوة وفي الأثناء قل لي ما الذي حصل معك منذ فارقتني فهز رأسه موافقا وقال:
عندما خرجت من عندك وجدت رجلًا غنيًا حباه الله بالمال والجاه والثروة، ولكن تفكيره
ضيق وأفقه محدود فعرضت عليه خدماتي وأبرزت له عضلاتي، فسألني ببرود: وأين كنت
تعمل سابقًا؟
فأجبته بفخر لأرفع من شأني وشأنك أمامه:
كنت أعمل لدى كيميائي عظيم
فرفع حاجبيه بسخرية وضحك .. أكمل ثم ماذا؟
فواصلت بخيلاء هو كاتب لامع ومتذوق جيد للأدب له بعض محاولات خجولة و …..
وفجأة أسكتني بقسوة صارخًا:
اخرس ولا تكمل أيها العقل الغبي
قلت لي كيميائي إذًا؟ سآخذك غدًا معي لأريك كم كيميائي مثله يعمل في شركاتي، ثم قلت
لي كاتب؟ سأريك كم كاتب مشهور أو مغمور مثل كاتبك هذا أستطيع شراءه بنفوذي
أونقودي، وقلت لي متذوق للأدب؟ يبدو لي أنك في حياتك لم تتعلم الأدب، هل متذوقك
هذا قد سبق له تذوق الكافيار في حياته؟
فقاطعته بأنفة: ما هو الكافيار؟ إن سيدي القديم لا يقرب المحرمات والمنكرات ولا يتعاطى المسكرات، فقهقه ضاحكًا من قولي حتى حسبته سيقع عن مقعده، وقال على العموم سأجربك لخمسة أيام إن كنت فيها ذكيًا ومفيدًا كما تقول استعملتك، ولكن إن لم أستفد منك سأرميك في
الشارع من حيث جئت، وفي هذه الأثناء اخلع عنك هذه الأسمال الباليه واختر لك بزة غالية.
في هذه الأثناء كنت قد انتهيت من إعداد القهوة فجلست أمامه وسكبت فنجانًا لي وفنجانًا له، فأخرج سيجارًا غليظًا من بين تلافيفه كأنه إصبع ديناميت وأشعله، فخطر ببالي ذلك المثل
الشعبي الذي يقول: “والله ونظفت يا مسعد”
فضحك حيث قرأ تلك البارقة وقال:
هل تريدني وأنا عقل الذوات أن أدخن سجائرك الحقيرة؟
فأجبته معك حق يا عقل الذوات أكمل حكايتك
فاسترسل قائلًا:
في خلال الخمسة أيام التي عملتها معه كنت أرى اعمالًا غير شرعية وأشياء غير أخلاقية، وصفقات مشبوهة فأنهاه فيقول لي اخرس ويأمر عقله الذي معه فيديرها ببراعة حقيرة
وكلما حاولت الاعتراض أخرسني، وبعد خمسة أيام ذقت فيها حلاوة النعيم طردني وقال لي
أنت مكانك ليس في رأسي فمثلك لا يستحق ……مكانك الحقيقي هو مقلب القمامة أغرب عني فلا أريد أن أراك مرة أخرى.
هنا فهمت أنه قد عاد إلي صاغرًا مرغمًا وبدأ دوري في التلاعب به فقلت له وأنا أغالب
ضحكاتي:
ذلك يعني أنك أصبحت الآن بلا عمل؟ ما الذي تريده الآن مني؟
فقال: أريد أن أعود إليك يا صديقي إلى مكاني الطبيعي في رأسك فقلت مقهقهًا متصنعًا
الغضب:
وهل تظن أن رأسي مقلب قمامة لتعود إليه؟ أنت كنت تعيش في نعيم حسب ما قلت فهل
ترضى أن تعيش في الجحيم مرة أخرى؟ وأنا الآن بدونك في نعيم فهل أعود إلى الجحيم؟
ثم أنا لم أخرجك من مكانك أليس أنت الذي خرجت باختيارك؟ أغرب عن وجهي وابحث لك
عن رأس يستوعبك ويتحملك، ثم إنك أيها الحقير تأتي الي وتتحداني وتدخن أمامي وهذه
المرة سيجارًا فاخرًا وليس من سجائري الحقيرة وتريد أن تعود؟ كلا وألف كلا
فأطرق برأسه وسمعت صوته وهو يفكر ويصدر ضجيجًا مزعجًا كآلة قديمة منهكة، إنه
تمامًا نفس الصوت الذي كنت أسمعه عندما كنت أضع رأسي على الوسادة لأنام.
ثم رفع رأسه بعد فترة وهدأ ذلك الضجيج الذي أزعجني وقال:
اسمع لنتفق على شيء، لن أزعجك ولن أنغص حياتك وسأريحك، وسأكون لك مطيعًا.
ولكني رفضت وقلت: إني أبدًا لا أضمنك.
فحاول استعطافي واللعب على وتر الكبرياء بداخلي وقال:
هل يرضيك أن أنام في الشوارع؟ وهل يرضيك أن أصبح خانعًا مثل دجاج المزارع؟
وهل يرضيك أن أعمل لدى شخص ليس مثلك حاذق وبارع؟
هذا العقل الملعون يقرأني جيدًا ويعرف كيف يرضي غروري، ويعرف أني أبدًا لا أرضى
بغيره، هو يستفز مشاعري ويعزف على وتر جراحي.
وبعد فترة تفكير أظنها طالت وأظنه كان يحترق خلالها قلت له:
حسنًا عد إلى رأسي أيها النحس ولنعد كما كنا بالأمس، ولكن بشرط أن تخلع هذه البزة
الغالية وتعود الى أسمالك البالية، والشرط الآخر أن لا تدخن في رأسي، فصفق طربًا
ورقص فرحًا وقفز إلى مكانه في رأسي، وصرخ لنعد إلى جنوننا وتمردنا، هذه هي الحياة،
وبالطبع كما توقعت لم أنم بقية الليلة فقد عاد الضجيج المعتاد بمجرد وضع رأسي على
الوسادة وفي الصباح الباكر لبست ثيابي وتأنقت للذهاب إلى عملي ووضعت قليلًا من العطر، فدق المزعج على رأسي قائلًا: حاول أن تغير عطرك فهو يزعجني
فقلت له: اخرس
وعند السابعة تمامًا كنت على باب الشركة التي أعمل بها فمنعني
الحراس من الدخول وسلموني كتابًا يقول:
السيد مروان خنفر:
بما أنك تغيبت عن عملك لمدة خمسة أيام بدون عذر مقبول فقد قررنا الاستغناء عن
خدماتك
وشكرًا
من كتاب رحلة إلى وادي عبقر وقصص أخرى.