أحمد عبد الحي كيرة – واحد من أخطر أبطال الجهاز السري لثورة 1919
في بداية ثورة 1919 كان الاتفاق بين الشباب وخاصة الطلاب الاعتماد على النفس، فجمعوا من مصاريفهم الخاصة مبالغ رصدوها فى تعقب المحتل وعملاءه، وحددوا لكل فرد فيهم دورًا محددًا.. وكان الدور الأصعب والأقسى دور أحمد عبد الحي كيرة ابن مدينة فارسكور – محافظة دمياط في مصر – طالب الطب، حيث كان دوره أن يمثل شخصية الطالب المستهتر والغير معني بالشأن السياسي والوطني والمحب لإنجلترا، بالرغم من أن جده كان من الذين أعدموا لمشاركتهم مع أحمد عرابي في معركة التل الكبير.
ففي الوقت الذي أضرب فيه الطلبة عن الدراسة دعمًا لثورة 1919.. كان أحمد عبد الحي كيرة على عكسهم رافضًا للإضراب، وكان يذهب كل صباح إلى مدرسة الطب مما تسبب فى تعرضه للضرب والإهانة والتحقير من زملائه الذين كانوا يطلقون عليه لقب ابن اللنبي “المعتمد البريطاني إدموند ألنبي”، بينما كان مدير مدرسة الطب يراه ابن الإمبراطورية البريطانية، وكان لا يفتح أبوابه إلا لأحمد عبد الحي كيرة، وأصدر أمرًا أن يفعل أحمد عبد الحي كيرة ما يشاء وأن يتنقل بين غرفات الدرس والمعامل كما يشاء وفى أي وقت يشاء.
ولم يكن أحد يعلم أن هذا الشاب قد شارك وقبل التحاقه بكلية الطب في عدة خلايا سرية للثورة، ونفذ مع زملاء آخرين عمليات لاغتيال جنود وضباط إنجليز وسياسيين هادنوا سلطات الاحتلال في ظل اعتقال زعماء الوفد ونفيهم. وبسبب قربه من مدير مدرسة الطب كان أحمد عبد الحي كيرة يدخل معامل المدرسة ويأخذ منها مواد تدخل فى تركيب المتفجرات فى أنابيب خاصة ويسلمها إلى اللجنة المختصة بصنع القنابل التى كان يشرف عليها الطالب أحمد ماهر والذي أصبح رئيسًا لوزراء مصر في الفترة 1944 – 1945.
ووفقًا لمصطفى أمين في كتابه “الكتاب الممنوع – ثورة 1919” فإن كيرة كان أحد أبطال الجهاز السري لثورة 1919 الذى قاده عبدالرحمن فهمى باشا.. لكن اتصاله بالأعمال السرية حدث قبل الثورة، حيث اشترك وهو طالب بمدرسة الطب فى مؤامرة إلقاء قنبلة على السلطان حسين كامل يوم 8 أبريل عام 1915.
وفقًا للدكتور مصطفى الغريب محمد فى كتابه “السطان حسين كامل”: فإن محاولة الإغتيال نفذها شاب اسمه محمد خليل من المنصورة، ومن المتشيعين للحزب الوطني بزعامة محمد فريد ويؤكد أن سبب هذه المحاولة كان بسبب سخط المصريين على تنصيب الاحتلال الإنجليزي لحسين كامل حاكمًا يوم 19 ديسمبر 1914 بعد خلعه الخديوي عباس حلمي الثاني، وتذكر لطيفة سالم فى كتابها “مصر فى الحرب العالمية الأولى” ألقى القبض على محمد خليل، وسيق إلى قسم عابدين وهو يهتف بسقوط الاحتلال، والسلطان الذى نعته بالخيانة.
وتم القبض على أحمد عبد الحي كيرة فى هذه المحاولة، حيث أمضى ثمانية أشهر فى السجن، وفشل الإنجليز في إثبات التهمة عليه، واستأجر والده الشيخ عبدالحي كيرة من تجار فارسكور محاميًا إنجليزيًا دفع له ألفًا وخمسمائة جنيه، وبرأته المحكمة، ونجًا من الإعدام بأعجوبة.
ويؤكد أمين أنه عندما قامت ثورة 1919، اتصل الدكتور أحمد ماهر والنقراشي به، وحسن كامل الشيشيني وعبدالحليم البيلي، وضموهم إلى الجهاز السري للثورة، واشترك فى صنع القنبلة التي ألقاها عريان سعد على يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء فى 15 ديسمبر عام 1919، وفي صنع القنبلة التى ألقيت على إسماعيل سري باشا وزير الأشغال والحربية فى 28 يناير سنة 1920، وفى صنع القنبلة التي ألقيت على حسين درويش باشا وزير الأوقاف في 8 مايو سنة 1920، وفي صنع القنبلة التى ألقيت على توفيق نسيم باشا رئيس الوزراء فى 12 مايو سنة 1920.
كما ينقل مصطفى أمين فى “الكتاب الممنوع” عن مذكرات محمد يوسف عضو الجهاز السري لثورة 1919 تعرفت على، أحمد عبد الحي كيرة الطالب بمدرسة الطب فى عام 1919 بواسطة الدكتور محمد حلمي الجيار الذى كان طالبًا بمدرسة الطب، وحسني الشنتاوي الطالب بمدرسة الإلهامية الثانوية، وكان أحمد عبد الحي كيرة متوسط الطول، قمحي اللون، ومن الغريب أنه لم يكن يحضر أي اجتماع سياسي فى ثورة 1919، ولا يظهر فى المظاهرات، أو يشترك فى الإضرابات، بل كان يحدث أن يضرب جميع طلبة الطب، ويخرج هو على إجماعهم، ويبقى فى مدرسة الطب فى المعامل.
وكان الأساتذة الإنجليز فى المدرسة يتصورون أن هذا الطالب المجتهد منكب على الدراسة، ولا يؤمن بالوطنية، بينما كان هو فى الواقع يبقى ليصنع هو وزميله محمد حلمي الجيار القنابل التى يستعملها الجهاز السري للثورة.
كما ينقل أمين، من مذكرات حسني الشنتاوي عضو الجهاز السري للثورة وعضو إحدى خلاياه: كان أحمد عبد الحي كيرة هو الذي يمدنا بالسلاح والقنابل ويأتي بها بكميات كبيرة من جهة لا نعرفها، ولم نحاول الاستفسار عنها لأن تعليمات الجهاز تعتمد على السرية المطلقة.. وكان يبلغنا المعلومات السرية التى ترشدنا عن الأحداث القادمة قبل وقوعها، وعن المواعيد الدقيقة لخروج ودخول الأشخاص المطلوب إلقاء قنابل عليهم، وكان للجهاز أعضاء يعملون في المراكز الحساسة بالدولة، وفى القيادة البريطانية وفى البوليس وفى كل مكان..
وكان سريع الحركة، واسع الحيلة جدًا، وعندما قبض علينا فى قضية عبدالرحمن فهمي، وأودعنا سجن الاستئناف، ووضعت علينا حراسة مشددة، فوجئنا بأن أحمد عبد الحي كيرة استطاع بطريقة عجيبة أن يدخل السجن ويبلغنا تعليمات الجهاز السري، وينقل أخبارنا إليه.
ويذكر مؤرخو الثورة بأن أحمد عبد الحي كيرة كان يجيد التنكر والتخفي والتحدث بلغات مختلفة.. فتارة تجده نجاراً، وتارة أخرى شيخاً معممًا، وتارة جنديًا بريطانيًا ومرة أخرى فلاحًا بسيطًا.
وفي عام 1924 اغتال أحد التنظيمات السرية السير لي ستاك سردار الجيش البريطاني في السودان خلال زيارته للقاهرة , ليسقط التنظيم في يد الإنجليز بعد وشاية من أحد الخونة وهو نجيب الهلباوي ,وأدلى شفيق منصور زعيم التنظيم باعترافات تفصيلية بالتنظيمات السرية , ليعرف الإنجليز اسم أحمد كيرة للمرة الأولى .
وكان أن تنبهت له المخابرات البريطانية وبدأت بملاحقته واصبح واحداً من أهم المطلوبين لديها، حتى أنها أصدرت منشوراً لجميع مكاتبها في العالم يوم 9 ديسمبر عام 1924، تطلب القبض على من اعتبرته مجرمًا، تقول فيه ” تعطى مكافأة 5000 جنيه لمن يقدم معلومات تؤدي إلى القبض على أحمد عبد الحي كيرة يعمل كيميائي بمدرسة الطب، فاتح اللون، متوسط القامة، وذو شارب وعمره حوالي 38 عامًا، خطير في الاغتيالات السياسية، ومشتبه بتورطه في قتل آرثر باشا وكيل حكمدار العاصمة، كل من يقدم هذه المعلومات يكون مشمولًا بالحماية العامة والسرية ولا يستدعى أمام هيئة تحقيق رسمية أو قضائية”.
وبسبب ذلك تنقل أحمد عبد الحي كيرة من مخبأ الى آخر وعرف متعة العيش في خطر كما يقول نيتشه. وقتها اضطرت قيادات الجهاز السري للثورة أن تقوم بتهريبه بجواز سفر مزور إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا واتفقوا مع ربان باخرة إيطالية على تهريبه، لكن القبطان طلب 200 جنيه ذهبًا متحججًا بأنه يورط نفسه في مهمة خطيرة قد تجلب له حكمًا بالإعدام إن قبض عليه، وأصر على قبض الثمن مقدمًا، وانتشر أصدقاء أحمد عبد الحي كيرة في القاهرة والإسكندرية يستبدلون الأوراق النقدية التي جمعوها بجنيهات ذهبية، وسلموها للقبطان قبل موعد الإبحار بنصف ساعة.
وعند وصوله إلى إيطاليا فوجيء أحمد عبد الحي كيرة بالبرقية التي وصلت قبله تطلب القبض عليه فاضطر للهرب مرة أخرى إلى إسطنبول وظل سنوات طويلة مطاردًا، و خاف من إرسال عنوانه إلى أهله لكي لا يقع العنوان تحت يد البوليس، وبدأ يعمل في تقطيع الأخشاب في الغابات ليكسب ثمن الطعام، بعد أن اتخذ من الحدائق سكنًا له، ورغم ذلك لم يسلم من مطاردات البوليس الإنجليزي والمصري، حيث كان يتم إرسال عدد من الجواسيس إليه لمحاولة الإيقاع به، حتى إنّه بعد أن كان قد فتح مقهى في إسطنبول بالاشتراك مع مصري آخر، اضطر لإغلاقه هربًا من الجواسيس.
وعمل ممرضًا في مستشفى تابع لمصلحة السكة الحديد التركية، ثم انتقل للعمل في مناطق أخرى من أجل لقمة العيش، وكان مسدسه لا يفارقه أبدًا، وقد قابله هناك الأديب الكبير يحيى حقي عام 1930 والذي كان يعمل موظفاً بالقنصلية المصرية في إسطنبول وكتب عنه في كتابه ” ناس في الظل ” بعبع الإنجليز، يبحثون عنه بعد أن فتلوا له حبل المشنقة، كنت لا ألقاه إلا صدفة وألح عليه أن نأكل معًا فيعتذر قائلًا: قريباً إن شاء الله.
وظل هذا حالي معه أربع سنوات كلما ادعوه يعتذر بأدب، وقد رأيت فيه المثل الفذ للرجل الشريد، كانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة وغلبت صفرته التحتانية على لونه الأصفر، يمشي على عجل ويحذر كأنه يحاول أن يفلت من جاسوس يتبعه، ويخلو كلامه من أي عاطفة، فلا تدري إن كان متعبًا أم غير متعب.. جيبه نظيف أم دافئ، معدته خاوية أم عامرة؟ ثم يكتب حقي: «حاولت أن أعرف أين يسكن فلم أنجح وقيل لي أنه يسكن في ثلاث شقق كل منها في حي بعيد عن الآخر ولا ينام في فراش واحد ليلتين، إنه يعلم أن المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتي لو فر إلى أقصى الارض، إنها لا تنسى ثأرها البائت.
وحين نزل الخديوي عباس حلمي الثاني في إسطنبول بعد خلعه من العرش، قيل لهُ من بعض رفاقه، إن أحمد عبد الحي كيرة سيقوم باغتياله لكي يحصل على عفو من الإنجليز، فشدد الخديوي الحراسة على نفسه، ليفاجأ ذات يوم بشاب داخل مكتبه يشهر مسدسًا في وجهه وهو يقول له إنه أحمد عبد الحي كيرة، وظن الخديوي أنه هالك لا محالة، لكن كيرة سلمه مسدسه وقال له إنه لن يفعل ما تم اتهامه به، لأنه لن يحارب رجلًا أعزل بلا سلطة ولا سلاح، ثم استعاد مسدسه وخرج.
وحين حاول الخديوي الذي تأثر بذلك الموقف أن يتخذه سندًا له رفض بشدة، وقال له إنه لا يطلب أكثر من أن يعيش في سلام وأمان، وحين تم اعتقال أحمد ماهر في قضية الاغتيالات السياسية، وفكرت السلطات البريطانية في تسليم رقبته إلى المشنقة، أرسلت مبعوثًا إلى «كيرة» يجس نبضه في عرض شديد الإغراء، وهو أن يعود إلى مصر، ويشهد ضد ماهر الذي كان يعمل تحت قيادته في التنظيم من قبل.
ولكي يتم استغلال ظروف «كيرة» الذي كان لا يجد قوت يومه إلا بشق الأنفس، خاصة بعد ضياع ثروة والده، وضع المبعوث المُوفد من قبل الإنجليز أمامه عشرة آلاف جنيه كمقدم لعودته إلى مصر، مع عرض موقع بالعفو عنه، لكي يكون شاهد إثبات، لكنه رفض بشدة، فأخذ الموظف الإنجليزي الكبير يضاعف العرض، حتى وصل إلى 40 ألف جنيه، لكن «كيرة» واصل الرفض، مؤثرًا الاضطهاد والغربة والفقر على أن يخون نفسه ومبادئه ويشهد ولو بكلمة ضد رفيق الثورة أحمد ماهر.
بعد توقيع معاهدة 1936 سافر إلى تركيا ثلاثة من عملاء الإنجليز فى مصر، ثلاثة من القلم السياسي هم “جريفز، ماركو، اسكندر بورجوزافو”، واستطاعوا استدراج أحمد عبد الحي إلى إحدى ضواحى إسطنبول بطريقة غير معروفة واغتالوا البطل بطعنة خنجر، ثم مثلوا بجثته وألقوا بها في حفرة بجوار سور إسطنبول القديم وفروا عائدين إلى مصر، ويقولون: “لقد ثأرنا لأرواح جنودنا التي أزهقت فى مصر.. لقد أدينا الواجب”، لقد نفذت فيه المخابرات البريطانية حكم الإعدام دون محاكمة ليبقي مثالًا للشباب الوطني بتضحياته وفدائيته. أما جثمان البطل فقد ظل في العراء نهبًا للبوم والغربان حتى كشف عنه البوليس التركي.