الهداية العظمى
قال تعالى؛ {قَالَ فَمَن ربّكُمَا يا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى (52)} سورة طه، يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى منكرًا وجود الله الخالق ، إله كل شيء وربه ومليكه، قال فرعون: “قَالَ فَمَن ربّكُمَا يا مُوسَى” من هو؟ الذي بعثك وأرسلك فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري، رد عليه موسى: “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى“.
الله الخالق الباريء المصور، خلق الإنسان والسموات والأرض والجنة والنار، وكل شيء في الكون مخلوق بإرادة الله ومشيئته وقدرته. وفي هذه التأملات استنرت بنور الدعوة الإلهية لبني البشر في النظر في أنفسهم وفي الكون من حولهم، وتلك الدعوة هى مبعث الإلهام وشاحذ همتي كي أطوف بفكري المتواضع حول معنى ودلالات الهداية العظمى، وأتدبر القصد والحكمة في الهداية العظمى التى أودعها الله في كل شيء خلقه.
وأمعنت النظر من حولي لأشاهد في الكون لمسات الجمال والإبداع، وأيقنت أن آثار العظمة الدالة على الله هي في كل شيء، أيها الإنسان أنت بالعقل تأهلت لمعرفة خالقك والنظر في مخلوقاته، وبه استطعت الاستدلال على صفات مخلوقاته، فالعقل أعظم نعمة وهبة أنعم الله بها على الإنسان، وبالعقل شرّف الله به الإنسان وكرمه على سائر مخلوقاته.
خلق الله كل شيء ثم أعطى كل شيء صورته وخلقته وأودع فيه ناموس حركة حياته ثم هداه الهداية العظمى فهو مخلوق وفق مراد الله وهو من استدعاه من العدم وقال لكل شيء “كن فيكون” وجعله على نمط حياة محفوظة في كتاب الله “اللوح المحفوظ”.
لقد شاء الله أن يمنح عطاء ربوبيته لكل مخلوقاته بلا تمييز، كل الأشياء في عطاء الربوبية سواء، لأنه هو الرب الذي استدعى مخلوقاته للوجود وجاء بها من العدم إلى الحياة، فلا بد أن يكفل لها أسباب الاستمرار في الحياة وذلك من تمام عدل الله وعظمته.
إن بناء الكون جاء على مراد الله ومشيته فكانت هدايته الهظمى التى تجلت في كل شىء حتى في كيان الخلية الواحدة، وهي وحدة البناء في كل المخلوقات، أودع فيها ناموس وجودها وحركة حياتها الذى قدره الله لها، وبه ضمن وجود الحياة لكل مخلوق، أودع الله لكل شيء في جيناته الوراثية ناموس وجودها وصفاتها وتوارثها، ولكل مخلوق له جيناته الخاصة التى تنحكم في وجوده وحركة حياته ونمط معيشته يرثها من الأبوين ويورثها للأبناء.
والعلوم الحديثة في علم الوراثة للمخلوقات تؤكد على عظمة الخالق وطلاقة قدرته في الخلق، فهي تحمل أدق صفات المخلوق ولا تختلف منذ أن خلق الله الكون ومن فيه حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فالحياة سلسلة موصولة الحلقات متماثلة الصفات لكل نوع وجنس، وتلك الحلقات هي المورثات الموجودة في كل خلية من خلايا الكائن المخلوق، والمورثات تحمل صفات المخلوق الجسدية والعقلية والنفسية تضبط الحياة وتهدي المخلوق للعيش وفق مراد الله ومشيئته، ومنذ خلق الله الكون وما به من مخلوقات وهي تنتهج سبيل الله الذي قدره لكل مخلوق لا يحيد عنه ولا يطغى.
إن في كل خلية من بلايين الخلايا في كيان كل مخلوق، معلومات وراثية كاملة، محفوظة في حيز النواة التي توجد في وسط الخلية، تحتوي النواة على خيوط دقيقة وطويلة من الحمض النووي DNA. وهذه الخيوط الطويلة والأدق من خيوط الملابس بملايين المرات، تلتف وتجدل بشكل محكم لتصبح كروموسوماً، ولهذا فإن الكروموسومات في الواقع عبارة عن خيط طويل ملتف من الحمض النووي DNA ونقول أن الكروموسومات: تراكيب خيطية الشكل، موجودة داخل النواة تحتوي على مادة DNA المسؤولة عن حمل الجينات الوراثية.
يتكون الكروموسوم من 60 % بروتين الهتسون، 35 % RNA %5،DNA وتسمى المادة الوراثية التي تحملها الكروموسومات بالجينات. ويحمل الكروموسوم الواحد عدداً كبيراً من الجينات المسؤولة عن الصفات الوراثية.
إن علم هندسة الحامض النووي DNA الجينوم البشري Human Genome Project الذي توصّل إلى معرفة أدق المعلومات عن تكوين المورثات وعملها في حفظ صفات وحياة المخلوق وفق مشيئة الله وإرادته تؤكد أن الهداية العظمى التى أنا في صدد استجلاء حقيقتها والتى ذكرها الله في محكم كتابه ووردت على لسان سيدنا موسى عليه السلام “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى“، إنما خلقها الله في تكوين المورثات التى تحفظ على المخلوق صفاته وكيانه الجسدي والنفسي هي الذاكرة العظيمة التى جعلها الله فى انضباط تام ودقيق تقوم بتشكيل وتكوين كيانات المخلوقات بدقة لن تدانيها دقة في موجودات الحياة الحديثة، وهي هداية إِلهيّة لا تحتاج تعليم أو تدريب، إنما هي فطرة وهداية من الله تهديه لكل ما يحتاجه الكائن للبقاء والاستمرار وفق إرادة الله ومشيئته.