الكولونيل أنطوان داود
أنطوان داود ونسف مقر الوكالة اليهودية في القدس
لا شكّ أنّ هذه الوكالة هي الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية العالمية، وكانت بنايتها أشبه بقلعةٍ مغلقة تضمّ أقبيتها وثائق نصف قرن من النشاط الصهيوني، وقد أحيطت هذه الوكالة بسور فولاذي ارتفاعه ثلاثة أمتار ويتولى حراسته عددٌ من جنود الهاجاناه، كما زرعت الشوارع المؤدّية إليه بقضبان حديدية وبراميل مملوءة بالمتفجرات، لتحول دون وصول أية سيارة، إلا ضمن حدود ضيقة، وكان على الداخل إليها أنْ يحمل تصريحاً خاصاً وهويته الشخصية.
وكان بطل نسف هذا الوكر هو الفدائيّ البطل “أنطوان جميل داود”، وهنا وصفً لعملية النسف حسب ما جاء في مخطوط الدكتور قاسم الريماوي على لسان الفدائيّ البطل. وُلِد أنطون داود في مدينة “بوغوتا” عاصمة كولومبيا في أمريكا اللاتينية، عام 1909م، من عائلة عربية هي في الأصل من بيت لحم.
تعرف على بطل آخر وهو إبراهيم ناصف الورداني من هذا الرابط
أتمّ أنطوان داود دراسته الثانوية في مدرسة “باغوتا”، والتحق بكلية (سانت جونز) في القسم التجاري وتخرّج منها عام 1930م، ثم التحق بجيش أمريكا الوسطى حيث حصل على رتبة ملازم أول، واشترك في القتال ضدّ الجيش الأمريكي في المكسيك، وحصل على رتبة كابتن بفضل شجاعته في معركة جبال “لاسيجوفيا”، حيث كان يقود فرق الرشاشات، وبعد انتهاء المعركة عاد إلى بيته في هاندوراس عام 1932م حيث أسّس شركة طيران مدنية سمّيَت (تاكا) بالتعاون مع الدكتور “باونز” الأمريكي و”جيمس ويلزبات” والطيار الأسترالي “بركس”.
ولما سمع أنطوان داود بنشوب حربٍ بين كولومبيا (مسقط رأسه) وبيرو، اتّجه إلى كولومبيا للاشتراك في الحرب، وما إنْ وصل حتى وضعت الحرب أوزارها سنة 1933، ثم اتجه إلى فرنسا عن طريق البحر، وبقِيَ في باريس عند أقاربه آل جاسر سنة كاملة، ومن هناك عاد إلى بيت لحم في فلسطين (مسقط رأس آبائه وأجداده) مارّا بمرسيليا، وهناك تعرّف على عددٍ من اليهود، واستطاع الوصول إلى فلسطين بدون جواز سفر على اعتبار أنّه يهودي مهاجر.
ولمّا حضر الموظّف البريطاني المسؤول عن التحقيق في جوازات السفر في ميناء حيفا، وطلب منه جواز السفر، أبلغه أنّه يهودي، فقال له الموظف: “هيا أسرع مع جماعتك فوراً”. ولم يحاول إعاقته وسهّل نزوله إلى البرّ. استضافه مرافقوه اليهود إلى تل أبيب حيث حلّ في بيتٍ يقع في (75 شارع اللنبي) في تل أبيب حيث تعرّف عليها، ثم طلب من مضيفيه الذهاب لزيارة القدس وبيت لحم والناصرة، فقالوا له: “إن هؤلاء (أهلها) عرب وقطّاع طرق”.
لكنّه ذهب إلى يافا، ومن هناك اتجه إلى القدس فبيت لحم سنة 1935، ولما نشبت ثورة 1936 خشي من الالتحاق بها، مع تشوّقه وحبه لإنقاذ بلاد أجداده وحبّه للحرب بسبب عدم إتقانه للّغة العربية، لهذا آثر أنْ يخدم بلاده عن طريق التحاقه بقوة البوليس الفلسطيني، فالتحق به عام 1936، ونقل إلى مركز “زخارين” وهناك أخذ يعمل لصالح بلاده مستغلاً مركزه الرسمي.
في أحد الأيام أطلق أحد المجاهدين النار على يهوديّ فقتله بالقرب من “زخارين”، وأراد اليهود الانتقام من القرية العربية المجاورة واسمها (مراديس)، فطوّقوا العمّال بالليل وألقوا القبض على رئيس العمّال، وهو من المجاهدين ويُدعى (مصطفى)، وقد وضع اليهود مسدّساً في جيبه وسلّموه لمركز البوليس في “زخارين”، ولما علم أنطوان داود بذلك، ذهب إلى مكتب الأحوال وتمكّن من الحصول على المسدس، فأتلفه من الداخل ووضع علامات على جميع قطعه الداخلية بمبرد رفيع، وأعاد المسدس إلى الخزانة وسجّل رقمه على علبة سجائر، وأبلغ المتّهم بضرورة إنكار المسدس، واتّصل بأهله ليطلبوه للشهادة، ولما قُدّم مصطفى المذكور للمحكمة العسكرية وشهد ضدّه ضابط المركز اليهودي، تقدّم أنطوان داود فشهد بأنّ الضابط اليهودي قد أعطاه المسدس المذكور قبل ثلاثة أيام من تاريخ القبض على مصطفى، وطلب إليه إصلاحه بصفته خبيراً في الأسلحة، ولما تأكّد من عدم صلاحيته أعاده إليه، وقال: “إنّ المتهم مسلم وأنا مسيحي من كولومبيا ولا تربطني به أية علاقة أو معرفة”.
وهكذا كتبت النجاة للمتّهم الذي كان سيُشنَق حتماً، على يد هذا الرجل الشهم. وحدث أنْ ذهبت قوة من البوليس لتفتيش بيت أحد المجاهدين في القطمون ومعهم أنطوان داود، ولما ذهب الضابط لإحضار المختار، انسلّ أنطوان داود إلى صاحب البيت بسرعة خاطفة وأعلمه الخبر، وأخذ بندقية الرجل ودفنها بعيداً.. ولما حضر الضابط، وأمر بتفتيش البيت لم يعثرْ على شيء، وهكذا كتبت النجاة لعائلة كبيرة بفضل جهوده.
ولما شكّت السلطات في أمره، أوقفته عن العمل، لكنّه اتصل بواسطة جماعة من جمعية الشّبان المسيحيين بالقنصلية الأمريكية، حيث اشتغل فيها عام 1947م، في قسم التأشيرات، وهناك استطاع أنْ يتعرّف على أسرار القنصلية الأمريكية، من خلال البرقيات والمكالمات التليفونية، كما تعرّف على فتاتين إحداهما من “الأرغون” والثانية من أفراد “الهاجاناه”، وتعملان في القنصلية، ومن خلال ذلك عرف أنّ جميع قوى اليهود السياسية والعسكرية، تحت إمرة الوكالة اليهودية ولا صحة لما يُقال عن اختلاف مع بعض المنظمات.
كان الميجر (أنجرونوفيتش) ملحقاً عسكرياً في القنصلية “وقد علمت أنّه على اتصالٍ دائم بالوكالة اليهودية هو وزوجته، وهما يسكنان في حيّ القطمون العربي، وأذكر أنّه في إحدى الليالي، أقام الميجر حفلة ساهرة في بيته، ضمت عدداً من الشخصيّات المهّمة، فتسلّلت حتى وصلت خلف صخور تطلّ على الدار، وفي هذه الأثناء حضرت سيارة صغيرة تقلّ شخصين من رجال الوكالة اليهودية، الذين يتردّدون على القنصلية. فنزل أحدهما وأطلق صفيراً، فخرج على الأثر الميجر المذكور، وقابلهما وسلّم كلّ منهما الآخر شيئاً لم أتبيّن حقيقته، وبعد نصف ساعة انفجر لغم كبير في القدس، وفي هذه اللحظة صمّمت على نسف الوكالة اليهودية لأنها مصدر الجرائم الرئيسية، ولا فائدة بدون تدميرها ودكّها من أساسها، ومن هنا قرّرت العزم على تنفيذ هذا الأمر ولو كلّفني أعز ما أملك من حياة أو مال”.
عرفت بفضل وجودي في القنصلية، وبطريقة سرّية أنّ ضابطيْن من أعظم الشخصيات البارزة في الوكالة اليهودية، سوف يحضران إلى القنصلية الأمريكية صباح يوم السبت في تمام الساعة العاشرة، فذهبت إلى عاملة التليفون اليهودية واسمها (فكتوريا) وقلت لها: “إنّ غداً السبت وأنت امرأة ولك أولاد. وأنا أريد أنْ أعمل مكانك لتقضي عيد السبت مع أهلك وأبنائك، فسُرّت سروراً عظيماً، وقالت: لا مانع عندي إذا وافق القنصل”. وكلّمت القنصل قائلاً: “إن هذه السيدة خجلانة منك بسبب غيابها يومين في الأسبوع الماضي وابنها مريض وأنا مستعدّ أنْ أشتغل مكانها غداً”، فوافق القنصل وقدّر شعوري نحوها، وبإنسانيتي رفقةً بها وبابنها المريض، ومن شدّة سروره وتقديره وعد بإعطائي إجازة يومين، مقابل ذلك الشعور، فقالت: “كيف أستطيع مكافأتك يا أنطوان”.. فقلت لها: “يكفي أنْ تعرفي أن العرب عندهم شهامة، ولا تمنعهم أعمالكم معهم عن بذل المعونة لكم”. وبقيت تلك الليلة في القنصلية، ولما سألني القنصل عن سبب تأخّري حتى ساعة متأخرة من الليل أجبته: “إنني لا أتمكّن من الذهاب إلى بيت لحم لبعدها، ولأنني لا أستطيع أن أترك التليفون”.
وفي تلك الليلة رسمت خطة كانت كالتالي: صعدت إلى غرفة القنصل التي كانت خالية في الساعة الثامنة من صباح يوم السبت، ورفعت سمّاعة التليفون، ووضعت (شيئاً ما) بين السماعة ونقطة ارتكازها على جسم التلفون ووضعت بينهما عود كبريت لتفصل بين السماعة والجسم، وبفضل ذلك بقي التليفون مفتوحاً، بالرغم من أنّه مقفل، وبفضل هذه العملية، أصبح في إمكاني أنْ أستمع من مكتب التوزيع الهاتفي إلى جميع الأحاديث التي ستدور بينهم وبين القنصل في غرفة مكتبه، ومنها استطعت معرفة؛ (أنّ من بين الحاضرين ضابطيْن من كبار ضباط الجيش الأمريكي، وهما ينويان تأليف قوى الميليشيا اليهودية، وأنّهم سيعقدون يوم الخميس الموافق 11/3/1947م اجتماعاً في تمام الساعة العاشرة في دار الوكالة اليهودية، وكان هؤلاء يقطنون في فندق (عدن) بالقدس، وقد عرفت بعد ذلك أنّ الميجر المذكور يتردّد كثيراً على هذا الفندق).
وفي الحال اتصلت بالقائد عبد القادر الحسيني، وأعلمته بالموضوع وبالخطة لتجهيز الألغام.. وفي صباح يوم الخميس 11/3/1947 ودّعت زوجتي وأولادي الوداع الذي كنت أعتقد أنّه الأخير، وذهبت إلى مكان عملي في القنصلية كالمعتاد، فغافلت موظفي القنصلية، وأخذت السيارة في تمام الساعة 8:45 وذهبت إلى المدينة القديمة، حيث وضعت اللغم فيها، وفي تمام التاسعة وخمس دقائق توجّهت إلى هدفي المنشود، حسب الخطة المرسومة التالية: (كان عليّ أنْ أجتاز قبل الوصول إلى الهدف حاجزيْن إنجليزيين، وأربعة حواجز يهودية، وكنت أحمل مسدسيْن أوتوماتيكيّيْن وقنبلتين يدويتين وأربع علب سجائر أمريكي)، ولما وصلت الحاجز الأول من حواجز المناطق المنظورة، والتي يتولّى حراستها الجنود الإنجليز، حيّيت الحارس بالإنجليزية، وقدّمت له سيجارة أمريكية فقال: “شكراً”.وبهذه الطريقة اجتزت الحاجزيْن.
وعند وصولي إلى أوّل حاجزٍ للهاجاناه في شارع الملك جورج، حضر إليّ الضابط المسؤول وأربعة من رجال الهاجاناه الموكول إليهم أمر الحراسة، وكلّمني بالعبرية فقلت له: إنني أعرف قليلاً، تكلّم معي بالإسبانيولية أو الإنجليزية، وسألني إلى أين أنت ذاهب فقلت له: “ألا تعرف أنني ذاهب من القنصلية الأمريكية لإحضار الشخصين العسكرييْن من غرفة رقم 14 في فندق عدن إلى الوكالة اليهودية؟ ” فلما سمع ذلك قال: “أهلاً بك.. تفضل..”، فشكرته، وقدّمت لكلّ واحد منهم سيجارتيْن أمريكيّتيْن واجتزت الحاجز الثاني بالطريقة نفسها، وبرباطة جأش. لأنني أيقنت أنّ أمامي هدفي، وأنّ وراء وصولي الموت المحقّق.
وبعد أنْ اجتزت الحاجزيْن، وقفت أمام فندق (عدن) واشتريْت جريدة (البالستاين بوست)، وأخذت أقرأ فيها وأنا في السيارة كأنّني أنتظر أحد الأشخاص، وفي هذه الفترة ضبطت ساعة توقيت الانفجار، ووضعتها على العشر دقائق، وعدت إلى دار الوكالة من حيث أتيت، وأوقفت عند الحاجز الأول. فقال لي المسؤول أين الضابطان اللذان ستحضرهما؟ فقلت له: “لقد أجّلا الموعد حتى الساعة الحادية عشرة والنصف.. فبدلاً من الانتظار سأذهب لأتناول قطعة من الساندويش”. صّدق الرجل كلامي، وقدّمت له سيجارة أخرى، ثم واصلت سيري في طريقي إلى القنصلية الأمريكيّة عن طريق شارع الملك جورج ماراً بالوكالة اليهودية، وقبل وصولي إلى أرض الوكالة أوقِفْت أمام الحاجز الثاني، وكلمت حرّاسه بالإسبانيولية (وهي اللغة المحبّبة لدى اليهود الإسبنيوليين)، وأبلغت قائد الحرس أنّ الشخصين قد تأخّرا حتى الساعة الحادية عشرة والنصف وقدّمت له علبة سجائر، فشكرني وقال: “عندما تعود يجب أنْ تحسب حسابك أنْ نقضي بعض الوقت، لنتحدّث في الأوضاع الحاضرة فأنا أتشوق للتحدث بالإسبانيولية”.
وهنا تقدّمت إلى الساحة.. ساحة الوكالة اليهودية. وكانت هذه الساحة محاطة بشريطٍ كهربائي على شكل بكرة، وقد وضعت براميل مملوءة بالمتفجرات في المدخل وتدلّى من البكرة سلكان كهربائيّان، وفي مؤخّرة البكرة يوجد جرس كهربائيّ، إذا ضغط عليه حصل تيار كهربائي قوي يدفع البراميل إلى الأمام مسافة كبيرة، تحطّم أية قوة تقف أمامها مهما كان ثقلها، وهذه الترتيبات للحيلولة دون اقتحام باب الوكالة بالقوة.. وما إنْ وصلت حتى فتح المسؤول الحاجز على مصراعيْه لاعتقاده أنّني أحمل الضابطيْن معي في السيارة (سيارة القنصلية الأمريكية) للاجتماع.. ولما دخلت الساحة، وشاهد الحارس أنّه لا يوجد أحد بداخل السيارة سواي حتى صرخ: “عربي.. عربي..”، فأسرعت في الحال وأدرت محرّك السيارة واتجهت إلى الحائط الذي تقع فيه مكاتب الكيرن كايمت ومكاتب الملّة اليهودية ومركز الماني، وقربت السيارة إليه، وكنت أعلم أنّ اللغم قد أوشك أنْ ينفجر، لأنّني وقّته في ساحة فندق عدن على عشر دقائق، حيث مضى نصفها على الأقل في الطريق، ونزلت بسرعة من السيارة وأقفلت بابها، ورميت بالمفتاح بعيداً حتى لا يتمكّن اليهود من فتح الباب ورفع الألغام إنْ هم قبضوا عليّ.. وعلى إثر صيحات الحارس.. عربي.. عربي… هجم عددٌ كبيرٌ من قوات “الهاجاناه” من الداخل والخارج نحوي، فألقيت القنبلة الأولى (وكنت أحمل قنبلتين من نوع ملز) ولكنّها لم تنفجرْ، وألقيت الثانية فلم تنفجرْ، وعندها استللت المسدسين اللذين أحملهما ووضعت السيارة خلفي للدفاع عنها وعني، وفي هذه الأثناء شاهدت مصفحة “للهاجاناه”، تقف على بعد خمسة أمتار مني على شمال الشريط الموصول إلى شارع الملك جورج، ولا أحد فيها، عندها وجّه إليّ الحارس المقيم على الزاوية الشمالية من الوكالة صلية رشاش، فأطلقت عليه طلقتيْن من مسدسي، فأصابته إحداهما، فسقط على أكياس الرمل التي أمامه، ثم قفز أحد ضباط “الهاجاناه” إلى سيارة تقف بجانب المصفحة، وأخذ منها مسدساً، فلمّا لمحته أطلقت عليه النار فأصبته وخرّ صريعاً، وارتمى تحت قدميّ مضرّجاً بدمائه، وعند ذلك وجّه أحد حاملي رشاش هوشكس النار تجاهي، من البناية المقابلة لعمارة الوكالة صليتين من الرصاص، ولم يتمكّن من مواصلة الرمي خشية أنْ يصيب رجاله الذين احتشدوا في الساحة.
وفي هذه اللحظة نزل أحد الضباط من بناية الوكالة من الجهة اليسرى، وفي الحال أطلقت الرصاص عليه من مسدسي فهوى على وجهه وسقط منه المسدس الذي كان يحمله، فخرجت منه رصاصتان أصابت أحد الجنود المتقدّمين نحوي.. ولما لاحظت أنّ قوة الخصم قد زادت من الجهة اليسرى شعرت بحراجة موقفي، وتأكّدت من أنّ اللغم سينفجر حتماً بعد لحظات، وفي الحال ألقيت بنفسي على الأرض وتدحرجت حتى أصبحت تحت المصفحة اليهودية وبسرعة فائقة، تدحرجت من تحت المصفحة وفجأة وجدت نفسي في الشارع العام.. وفجأة وجدت نفسي أترنح يمنة ويسرة، وشعرت أنني أكاد أطير في الهواء.. كان اللغم قد انفجر، فطيّر العمارة وجميع ما حولها من استحكامات وأكياس الرمل.
وما إنْ تمالكت شعوري ووقفت على قدمي، حتى رأيت سيارة خضراء يهودية تقف وسائقها في حالة ذعر شديد، فأسرعت نحوها، وضربت السائق على رأسه بعقب المسدس فأغمي عليه وأنزلته من السيارة، وصعدت عليها، وأدرت محرّك السيارة وبسرعة جنونية سرت حتى وصلت تراسنطة، ولما سمعت زامور الخطر تركت السيارة، بعد أنْ أخذت منها رزمة ملفوفة، وسرت إلى جانب الطريق المزروع بشجر الزيتون، حتى وصلت كراجاً يملكه رجلٌ عربي، وهناك حشوت المسدسيْن وجهزت نفسي لمغادرة مدخل المنطقة المحظورة، الذي يتولّى حراسته الجنود الإنجليز، وكان يحرسه ثلاثة من الإنجليز يحمل أحدهم رشاش برنّ، كما يحمل الآخران أسلحة أوتوماتيكية، فلما وصلت إليهم وقد قرّرت القضاء عليهم إنْ حاولوا التعرّض لي، إلا أنّني وجدتهم مذعورين من شدّة الانفجار، ويحملقون في أعمدة الدخان المتصاعدة، وتقدّمت إلى الشاويش وقلت له: “لقد نسف الإنجليز عمارة الوكالة اليهودية”.. فصاح بي: “اذهب من هنا حالاً”.. وهكذا تمكّنت من الخروج من المنطقة المحظورة، ومنها توجّهت إلى “الحرم الشريف”، ومنه إلى مدينة أريحا، ومن أريحا إلى نابلس حيث تناولت الكنافة.. ثم توجّهت إلى بيرزيت لمقابلة القائد عبد القادر، وفعلاً قابلته في رام الله في بيت الدكتور سليمان سليم، وعندها قدّمت له المائة جنيه التي كانت ملفوفة في سيارة اليهودي وكانت ثمناً لبنزين شركة شل، وقلت له: هذه غنمتها من اليهود وهي ملك للقيادة.
فرفض عبد القادر أنْ يأخذها وأصررت على ذلك، فما كان منه إلا أنْ أخذها وعدّها، فوجدها ناقصة خمسة جنيهات فتناول من جيبه خمسة جنيهات وأعادها جميعاً إليّ وقال: إنّها حلال لك حرام على غيرك. وبعد ذلك انتقل أنطوان داود إلى خارج فلسطين إلى أحد الأقطار العربية، وغادر بعد ذلك في عام 1950 إلى بوغوتا.
وقد التقى أنطوان داود في غواتيمالا مع كاسترو وجيفارا، واشترك معهما في إعداد الدفعة الأولى من الثوار، وما لبث أن انتقل معهم إلى كوبا في أول خطوة تحريرية. وتخصص بعد ذلك ـ بشكل محدد ـ في التدريب على حروب العصابات، ثم ما لبث أن انتقل مع تشي جيفارا إلى بوليفيا، حيث قاتل معه. وقام بعدة زيارات إلى الفيتنام والصين وأجرى مقابلات مع الزعماء الثوريين في آسيا وخصوصاً مع ماوتسي تونغ.
وعاد أنطوان داود إلى وطنه ـ بعد طول مراس ـ واختار أن يكون أحد رجال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان على وشك تنفيذ عملية كانت ستهز كيان العدو وتوجه ضربة قاصمة له في أواخر شهر آب1969، إلا أن الأجل وافاه قبل أن يحقق رغبته.
توفي أنطوان داود في 4/آب / 1969 حين كان في الكويت يزور أهله، فانطوت معه قصة بطولة قلما شهد الرجال مثيلها، رحم الله جميع الرجال الذين كانت أعينهم وقلوبهم على الوطن.
اقرأ أيضا عن حياة البطل إبراهيم ناصف الورداني من هنا