صفحات من التاريخ – الصفحة الخامسة – الجزء الرابع – إبراهيم ناصف الورداني

[faharasbio]

إبراهيم ناصف الورداني

قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي

من منا لم يسمع هذه الأغنية بصوت شادية مع بعض التحريف في كلماتها حيث غنت:

قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن حبيب القلب صابح ماشي

فمن هو غزال البر وما قصة ذلك الفتى ذو الأربعة والعشرين ربيعًا الذي قام بقتل رئيس الوزراء بطرس غالي والذي سار إلى حبل مشنقة المستعمر الإنجليزي رافع الرأس ثابت القلب والقدم؟

من هو إبراهيم ناصف الورداني

إبراهيم ناصف الورداني شاب مصري فى الرابعة والعشرين من عمره ولد عام 1886، تلقى علومه الأولى فى المدارس المصرية حتى نال البكالوريا، وتوفى والده فقام بتربيته الدكتور ظيفل باشا حسن وأرسله إلى سويسرا لتلقي علوم الصيدلة ثم ذهب إلى إنجلترا لدراسة الكيمياء عام 1909، فقضى بها سنة وعاد إلى مصر فافتتح بها صيدلية في شارع عابدين، وكان من المتحمسين لمبادئ الحزب الوطني المناوئ للخديوي عباس وقتذاك.

انتظم فيه منذ تكوينه في الحركة الوطنية، كما كتب عدة مقالات فى صحيفة «اللواء» لسان حال الحزب التى أصدرها مصطفى كامل عام 1900، وكان يوقعها باسمه الحقيقي، أيضاً كتب مقالاً فى صحيفة «المؤيد» باسم مستعار.

فى الساعة الواحدة بعد الظهر يوم 20 فبراير 1910، خرج بطرس باشا غالي من غرفته فى ديوان الخارجية بصحبة حسين باشا رشدي “ناظر الحقانية”، وفتحي باشا زغلول “وكيل الحقانية”، وعبدالخالق ثروت “النائب العمومي”، وأرمولي بك “التشريفاتي بالخارجية”، ثم فارق من كانوا معه عند السلم الخارجي، وبينما هو يهم بركوب عربته اقترب منه هذا الفتى «إبراهيم ناصف الورداني» متظاهرًا بأنه يريد أن يرفع له عريضة وأطلق عليه رصاصتين أصابته إحداهما فى صدره، وما كاد يلتفت خلفه ليرى صاحب هذه الفعلة حتى أطلق عليه الفتى ثلاث رصاصات أخرى أصابت عنقه من الخلف واثنتين فى كتفه، وأطلق رصاصة سادسة أصابت ثيابه.

واستدعى الدكتور سعد بك الخادم فأخذ يسعف الجريح ويخرج الرصاصات من العنق والكتف، وأفاق الجريح قليلاً وكان فى النزع الأخير، فحمل إلى مستشفى الدكتور ملتون بباب اللوق، وفور وصول بطرس باشا غالي إلى المستشفى اجتمع حوله 15 طبيبًا من كبار الأطباء فى مصر، وقد رأوا فى بادئ الأمر عدم إجراء عملية له لكن في النهاية تم إجراؤها لإخراج الرصاصات الباقية.

ولما وقف الخديوي عباس حلمي الثاني على هذا النبأ بلغ منه التأثر ومن رجال الحاشية مبلغه نظرًا لما كان يتمتع به بطرس باشا غالي من ثقته ومحبته له، وأصدر أوامره فى الحال تليفونيًا إلى فتحي باشا زغلول باتخاذ جميع الوسائل الممكنة بكل سرعة للعناية بالجريح، وقد زار بطرس باشا غالي، ودخل عليه فى غرفته وقبله فى وجهه والدموع تملأ عينيه، وكان بطرس باشا قد تنبه قليلاً، فجعل يقول: «العفو يا أفندينا.. متشكر.. العفو يا أفندينا.. متشكر». وأمر الخديوي أن تبلغ له الأخبار لحظة بلحظة.

وبعد انتهاء العملية لإخراج الرصاص ارتاح الجريح نوعًا ما، ولكن الألم ازداد بعد قليل وارتفعت حرارته، وأصبح فى خطر قريب، ولم تأت الساعة الثامنة والربع مساء حتى أسلم الروح بين بكاء الحاضرين، وفى الساعة السابعة والدقيقة 45 من صباح يوم الاثنين 21 فبراير سنة 1910 تم عقد مجلس النظار برئاسة الجناب العالي فى سراي عابدين وقرر تعطيل نظارات الحكومة وجميع مصالحها والمدارس الأميرية إلى أجل غير مسمي. وكذلك تنكيس الأعلام على الثكنات العسكرية ودور الحكومة حدادًا على فقيد مصر العظيم. ويعد حادث اغتيال بطرس باشا غالي هو الأول من نوعه فى مصر منذ أكثر من قرن عندما قتل سليمان الحلبي كليبر.

وفي يوم 21 إبريل 1910 قدم إبراهيم ناصف الورداني للمحاكمة، وقام عبد الخالق باشا ثروت الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب النائب العام بالتحقيق في القضية، وقد ذكر في مرافعته أن الجريمة المنظورة أمام المحكمة هي جريمة سياسية وليست من الجنايات العادية، وأنها “بدعة ابتدعها الورداني بعد أن كان القطر المصري طاهرًا منها” ثم طالب بالإعدام لإبراهيم ناصف الورداني.

ووقف المحامي احمد لطفي السيد يجلجل بصوته فى المحكمة مدافعًا عن الورداني: ياحضرات القضاة انظروا إلى هذه القضية كما ينظر إلى إي قضية أخرى ولا تقيموا اعتبار إلى أن المتهم إبراهيم ناصف الورداني وإلى أن المقتول هو رئيس النظار بطرس بشا غالي..

أما أنت أيها الورداني فلقد همت بحب بلادك حتى أنساك هذا الهيام كل شىء حولك، أنساك واجبًا مقدسًا هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما تبكيان هذا الشباب الغض، تركتهما تتقلبان على جمر الغضا، تركتهما تقلبان الطرف حولهما فلا تجدان غير منزل مقفر غاب عنه عائله تكتمًا على ألا تعود إليهما، دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب وحجب عنك كل شىء إلا وطنك وأمتك.

إن هناك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس وهى أنك لست مجرمًا سفاك للدماء ولا فوضويًا من مبادئه الفتك ببني جنسه ولا متعصبًا دينيًا خلقه كراهية من يدين بغير دينه إنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك.

كان الذى يثير الانتباه والدهشة هو ما أعلنته إنجلترا من أن بطرس غالى لم يقتل إلا لأنه قبطي وردد ذلك ورائها روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي قال إن التعصب الاسلامي هو الذى دعا المصريين إلى قتله وأن وضع الأقباط فى مصر سىء للغاية.

والحق أن نصرانية بطرس غالي لم يكن لها أدنى تأثير فى تحريك إبراهيم ناصف الورداني بل الخيانة التى ارتكبها غالي هي التي أدت إلى قتله إيمان الورداني بقضية بلاده ووطنيته وإخلاصه.

إن المسيحيين والمسلمين فى مصر يعيشون تجمعهم الألفة والود والمحبة فبماذا يفسرون ما قام به الشاب القبطي عريان يوسف سعد لما ألقى قنبلتين على دولة يوسف وهبة باشا عندما وضعه الانجليز على رأس الوزارة المصرية فى 21 فبراير 1919 وكانت الأمة المصرية مسلمين وأقباطًا قد اتفقت على الامتناع عن تولي مناصب الوزارة ومقاطعة لجنة ملنر.

وقد وجهت لإبراهيم ناصف الورداني تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وهي جريمة عقوبتها الإعدام، وانشغل الرأي العام المصري بالحادث انشغالًا كبيرًا وفي يوم 18 مايو 1910م أصدرت محكمة الجنايات حكمها بالإعدام على الورداني، وفي صباح يوم 28 يونيو1910م نفذ حكم الإعدام فى إبراهيم ناصف الورداني وهو يقول الله أكبر الذي يمنح الحرية والاستقلال.

وكان الشعب قد خرج فى صباح ليلة تنفيذ الحكم يردد مواله الذى مازال جزء من تراث الغناء العربي:

قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي

وقد صدر قرار يُحرم على أي مصري الاحتفاظ بصورة إبراهيم ناصف الورداني وبقي هذا القرار ساريًا حتى ثورة يوليو 1952م.

وكتب الأستاذ نجيب المنقبادي المحامي القبطي رسالة إلى العالم نشرتها جريدة اللواء فى 9 مارس 1910، أريد من صميم فؤادي أن أبدد التهم التى أشاعها الإنجليز فى العالم ضد الورداني ليقللوا من النتيجة السياسية لعمله فقد اتهموه أنه فتى مختل الشعور قليل الذكاء وأنه أطاع داعي التعصب الإسلامي بقتله بطرس غالي المسيحي الذى يقولون أنه كان حرًا ووطنيًا، أنا أعرف الورداني شخصيًا وهو فتى شديد الذكاء كثير المعارف ملأت صدره الوطنية المتحمسة بعد أن ضاق صدرنًا جميعًا من السياسة الإنجليزية التى كان بطرس غالي ينفذها باجتهاد.

وأنا بصفتى قبطيًا أعني مصريًا مسيحيًا أصرح إن حركتنا هي حركة وطنية مجردة ترمي إلى الترقي والحرية وما تهمة التعصب الإسلامي إلا من شائعات الإنجليز التى يصنعونها ليبرروا المظالم التى يرتكبوها فى مصر.

وقد نفى المحامي القبطي الشهير مرقص فهمي تهمة التعصب مسفهًا أقوال الذين يتهمون المسلمين باغتيال بطرس غالي..

رحم الله البطل إبراهيم الورداني ولعن الله كل خائن مهما كان دينه أو منصبه.

[ppc_referral_link]