قصة الشيخ مسعود – رحلة إلى وادي عبقر

[faharasbio]

قصة الشيخ مسعود من كتاب رحلة إلى وادي عبقر:

قيل فيما قيل أيها السيدات والسادة

أنه كان هناك في قديم الزمان في فلسطين رجل فلاح رزقه الله عددًا من البنات والبنين وكان
من بين هؤلاء الأبناء طفل مميز أسماه أحمد، حباه الله بالفطنة والذكاء وبرز بين أقرانه فبالغ الأب
بالاعتناء به وتعليمه حتى وصل إلى الخامسة عشر من عمره، فقرر إرساله إلى الأزهر
الشريف لتلقي العلم الشرعي فيه ليعود وينفع بلدته وأهله، وبالفعل فقد قام بإرساله ليمكث فيه
عشرين عامًا يتلقى فيها العلوم الشرعية وعلوم الدين حتى أجازه شيوخه وأساتذته في علوم
الدين كلها.

ولنعد قليلًا بالزمن إلى ما قبل خمس سنوات عجاف إلى مدينة طبريا إلى حيث مسعود ذلك
الشاب الذي تجاوز العقد الثالث من عمره ويعمل بائعًا للتين ولم يكن عمله هذا يدر عليه من
الدخل إلا بالكاد ما يسد به رمقه، وفي إحدى لياليه الحزينة الكئيبة جلس في حجرته مهمومًا
مغمومًا يتفكر في نفسه وإلى ما سيؤول إليه حاله وإلى متى سيبقى بلا زوجة وولد، فلم يعد
يقوى على الوحدة ولم يعد له عليها جلد، فاتخذ قراره بمغادرة بلدته والسياحة في الأرض عله
يجد رزقه في مكان آخر.

وفي الصباح الباكر حزم متاعه وحمل صرة ثيابه وسار في دربه لا يلوي على شيء فهو
بالفعل لا يعرف أين يذهب، ليحط به الترحال بعد قرابة العشرين يومًا في قرية صغيرة مازال
أهلها يعيشون على البداوة والبساطة كلهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وصادف وصوله وقت
صلاة العصر، فسأل عن جامع البلدة فقيل له ليس فيها جامع فاستغرب من ذلك وطلب أن
يتكرموا عليه ببعض الماء ليتوضأ ويصلي فجلبوا له الماء وتوضأ وصلى. بعد الصلاة جاءه من يبلغه أن مختار القرية يطلبه إلى بيته وأنه سيكون ضيفه على العشاء كعادة الغرباء.

بعد العشاء وفي جلسة سمر جمعت كل أهل القرية سألهم الرجل:
لم لا يوجد لديهم جامع في القرية ولم لا يوجد لديهم شيخ وخطيب؟
فأجابه المختار أنهم قوم بسطاء وأميون ولا يعرفون من أمور دينهم الكثير، واقترح عليه
المختار بما أنه رجل صاحب دين يحسن الصلاة وعنده علم من الكتاب فلم لا يقوم بهذه
المهمة؟
فكر الرجل في نفسه بأنه هام على وجهه بحثًا عن عمل وقد جاءته الفرصة على طبق من
ذهب فلم لا يقبل؟

بالفعل وافق على ذلك وتم الإتفاق على أن يقوم الشيخ مسعود بالإشراف على بناء جامع
للبلدة والإمامة فيه وتعليم الأولاد القرآن الكريم مقابل ثلاثين شاة تقدم له سنويًا نظير عمله،
ويالطبع وافق على هذا العرض ووجدها فرصته ليودع حياة فقره، واستمر في عمله متفانيًا
مخلصًا وحتى لو لم يكن يتقن شيئًا من أمور الدين.

يعود بنا المشهد مرة أخرى إلى مدينة القاهرة إلى الأزهر الشريف لنشهد وداع الشيخ
الفلسطيني أحمد ذلك الذي شهدناه منذ حداثته يتلقى العلم الشرعي وشهد له شيوخه بالعلم
والتميز يودع شيوخه بدموع عينيه مصحوبًا بأمانيهم ودعواتهم.

سار الشيخ أحمد في دربه حتى وصل بعد صلاة عشاء يوم الخميس إلى بلدة الشيخ مسعود
ومن الطبيعي في مثل هذا الوقت أن يسأل عن جامع البلدة فدلوه عليه ليلتقي فيه بالشيخ
مسعود، ذلك الشيخ المهيب كث اللحية وغزيرها ليستضيفه عنده وبسؤاله عن نفسه أجابه أنه
قادم من الأزهر الشريف بعد عشرين عامًا من التعلم فيه.

هنا أحس الشيخ مسعود بالتوجس خيفة وأن هذا الأزهري لابد سيكتشفه وسيكشف أنه لا
يحفظ شيئًا ولا يعرف شيئًا من العلم وأن ثروته التي جمعها ستذهب منه لا محاله، وشغلته هواجسه فلم ينم طيلة تلك الليلة وأصبح يتقلب على فراش كأنه الجمر وقر عزمه على رشوة الشيخ ولو دفع نصف خرافه مقابل ذلك.

في يوم الجمعة جهز الشيخان نفسيهما للصلاة وذهبا مبكرين للجامع وطلب الشيخ مسعود من
ضيفه أن يخطب بالمصلين ويؤمهم في صلاة الجمعة ولكن الشيخ أحمد رفض وبشدة وقال من
السنة أن لا يؤم الرجل في سلطانه وأنت في سلطانك.

أسقط في يد الشيخ مسعود ولم يجد بدًا من الخطابة والإمامة فتقدم وخطب في المصلين
خطبة ليس فيها شيء من الدين وأقيمت الصلاة وتقدم للصلاة وقد قر قراره على تنفيذ ما
عزم عليه من رشوة الشيخ أحمد فكبر وقرأ الفاتحة ثم قال بعد الفاتحة :
أخوكم من حطين فيها من الخراف ثلاثين لنا عشر ولكم عشرين جودوا علينا من فضلكم يا
فاضلين.
ثم كبر وركع وأتم صلاته ونظر إلى الشيخ أحمد نظرة استعطاف ورجاء.

صعد الشيخ أحمد إلى المنبر وتنحنح وحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه ثم قال:
أيها الإخوة المصلين إن شيخكم لا يفقه شيئًا في أمور الدين وما أراه إلا من الكاذبين.
ثارت ثائرة أهل البلد وأرعدوا وازبدوا وطالت ألسنتهم الشيخ أحمد بالسباب وقاموا إليه
فضربوه وأدموه ففر منهم هاربًا لا يلوي على شيء يحمد الله على نجاته من هؤلاء القوم
الذين قابلوا نصيحته بالسباب والضرب.

وبينما هو سائرٌ في دربه التقى في طريقه براعي للغنم رأى ما هو عليه من حال وعاين
جروحه ولامس كسر روحه فطببه وأطعمه وسقاه وسامره وآواه وبات قربه يحرسه ويرعاه،
وفي الصباح قال له أيها الشيخ إني تفكرت في حالك وما آل إليه مآلك وما كنت أراك لو بقيت
في تلك البلدة إلا ميتًا هالك فارجع إلى شيخك واقرأه مني السلام وقل له: قد بقي هناك شيء من علم لم تعلمني إياه.
دهش الشيخ أحمد وتفكر في نفسه هل يعقل ما يقوله هذا الراعي أم أنه يهذي؟
هل قضيت عشرين عامًا من عمري أتعلم العلم حتى قرأت كل كتاب ثم يبقى هناك شيء لم
أتعلمه؟ هل يعقل هذا؟

بات الشيخ أحمد تلك الليلة يتقلب في مضجعه كأنه على فراش من شوك أو جمر، وأصبح
الصباح بنوره ولاح فصليا الصبح جماعة وتوادعا على أملٍ باللقاء وهَمّ الشيخ أحمد بإبلاغ
مضيفه بعزمه على إكمال طريقه إلى بلده ولكن نظرة الثقة في عين الراعي وبسمته الواثقة
جعلتاه يسير عائدًا إلى حيث جاء من الأزهر، وكان يحدث نفسه طوال الطريق بأنه تلقى من
العلم ما يكفي فليعد إلى بلده، ولكن كلمات الراعي مازالت ترن في أذنيه وتقول بقي هناك شيء
لم تتعلمه فتحفزه على أن يغذ الخطا إلى حيث العلم.

وصل الشيخ أحمد إلى الأزهر أشعث أغبر فتلقاه شيوخه بالحفاوة والترحاب ومزيد من نظرات
الاستغراب حتى إذا خلا إلى شيخه بادره بالقول:
كيف تخفي علمًا آتاه الله لك يا شيخ عبد السلام؟
نظر له الشيخ نظرة عميقة حاول فيها أن يستجلب أعماق نفسه ويستجلي أسرارها وفهم
بخبرته الطويلة وعمق فكره أن هناك خطبًا ما قد حدث له في الطريق ولا يعرف كنهه فطلب
منه أن يقص عليه القصة مذ غادر الأزهر وحتى عودته له فقص عليه قصته كاملة.
ابتسم الشيخ وقد فهم مغزى كلام الراعي ونظر إلى تلميذه قائلًا:
سامحني يا ولدي فقد نسينا في غمرة انشغالنا أن نعلمك جزئية صغيرة لم نعلمك إياها ولكن
هذه الجزئية تقتضي أن تمضي سنتان أخريان عندنا لنعلمك إياها.
استغرب الشيخ أحمد كلام شيخه ماهي هذه الجزئية؟ وكيف نسيها شيخه ليقتضي أن يمكث من أجلها سنتان أخريان؟
أسئلة حائرة جالت في خاطره ولكي يعرف إجابتها كان لا بد له من الموافقة على المكوث
ليحصل على غنيمة العلم وخلاصته.

ومضت الأيام رتيبة بلا طائل ولم يحس الشيخ أحمد أنه زاد شيئًا إلى حصيلته من العلم حتى
كان ذات يوم جاءه فيه شيخه ليزف له الخبر أنه قد أنهى تعلم كل العلم، والخبر الأهم هو أنه
قد اشتاق لزيارة المسجد الأقصى وأنه سيرافقه في رحلته ليكون ضيفًا عليه حتى يعود إلى
بلده. تهللت أسارير الشيخ أحمد ورحب بشيخه وتمنى أن يحمله على كتفيه في التو واللحظة ليصل
به إلى بلده ويرد له جزء صغيرًا من الجميل.

تجهز الشيخان للرحيل وخرجا على بركة الله يقصدان المسجد الأقصى وفي الطريق طلب
الشيخ عبد السلام من تلميذه أن يبلغه قبل الوصول إلى بلدة الشيخ مسعود بوقت كاف، فلما
قربا على الوصول أبلغه بذلك وقد تقصد الشيخ عبد السلام أن يبلغاها في يوم الخميس بعد
صلاة العشاء.

وكالمعتاد سأل الشيخان عن جامع البلدة فاستقبلهما الشيخ مسعود بالحفاوة والترحاب ولم
يتعرف على الشيخ أحمد ضيفه السابق وأجلسهما مجلسهما وتسامروا تلك الليلة وناموا، ولكن
الشيخ مسعود هاجت به الذكرى إلى ذلك اليوم الذي جاء به الشيخ أحمد إلى بلدته لينغص
عليه عيشته ويظل خائفًا من عودته وقر عزمه على رشوة الشيخان كما فعل سابقًا وإلا كان
مصيرهما الإهانة والضرب.

وفي الصباح بكروا إلى الجامع فعرض عليهما أن يخطب أحدهما بالناس وأن يؤم الٱخر
بالمصلين فرفضا وقالا له:
من السنة أن لا يؤم المرء في سلطانه وأنت في سلطانك فغامت عيناه ليعود بذاكرته إلى سنين مضت واجه فيه نفس هذا الموقف وأسقط في يده فقام وخطب بالناس خطبة قصيرة حتى
لا يفتضح أمره أمامهم وأم بالمصلين فقرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ بعدها:
أخوكم من حطين، كان بياع تين، فيها من الخراف ثلاثين، خذوها كلها، ودعونا آمنين.
فلما أنهى الصلاة وسلم نظر لهما نظرة رجاء واستعطاف، فنظر إليه الشيخ عبد السلام نظرة
مطمئنة وغمز له بعينه ثم قام فصعد المنبر والشيخ مسعود يشيعه بنظرات قلقة خائفة فحمد
الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال:
يا معشر المصلين قد زرنا الليلة الفائتة شيخكم مسعود فوجدناه أبًا للجود وسمعنا خطبته
فرأيناه خير من عرف المعبود وصلينا خلفه الجمعة فتمنينا أن تكون الصلاة بلا حدود فنسأل
الله أن يطيل في عمره وأن لا يموت فيأكله الدود.
وتوقف قليلًا ونظر إلى الشيخ مسعود الذي تهللت أساريره وانتفخت أوداجه ونفخ في أعطافه
كأنه طاووس يمشي على الأرض.
ثم أكمل الشيخ عبد السلام قائلًا:
وقد اكتشفت بخبرتي الطويلة أن الشيخ مسعود شيخ مبارك وأن في لحيته بركة الشفاء لكل
عليل ويكفي حرق ثلاث شعرات منها والتبخر بها للقضاء على كل مرض.

كان الشيخ مذهولًا مما يسمع ولم يدر بنفسه إلا والناس تزدحم فوقه وينتزعون شعر لحيته
وهو يصرخ ويصرخ حتى غاب عن الوعي تمامًا، لم يدر كم بقي على هذه الحال إذ أفاق وهو
يحس بالألم في كل أنحاء جسمه ويحس كأن وجهه منتفخ أضعاف حجمه الطبيعي فتحسس
وجهه ليجد أنه منتوف مثل دجاجة قادها سوء حظها لتقع بين أيدي أناس لا يرحمون، فصارت
تتنازعه المشاعر وأصبح كالمجنون فأحيانًا تنزل دموعه على خديه مدرارًا حسرة على نفسه
وإلى ما آل إليه حاله وأحيانًا يضحك بصوت عال.

وفي الأثناء كان الشيخان عبد السلام وأحمد يغادران البلدة يتأبطان ذراعي بعضهما ويضحكان
ويتندران على منظر الشيخ مسعود بعد نتفه وتوقفا برهة لينظر الشيخ أحمد إلى شيخه قائلًا:
إذًا فهذا هو الدرس الذي نسيت أن تعلمني إياه يا شيخي.
فنظر له الشيخ عبد السلام وضحك ضحكة جذلى وقال له سامحنا يا شيخنا فقد نسينا أن
نعلمك وكدنا والله أن نهلكك.

من كتاب رحلة إلى وادي عبقر وقصص أخرى.

[ppc_referral_link]