محمد الطاهر بن عاشور
هو الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور الشهير بالطاهر بن عاشور، ولد عام (1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
أتم الطاهر بن عاشور القرآن، وتعلم الفرنسية، والتحق بالزيتونة وهو في الرابعة عشرة من عمره، فأظهر نبوغًا منقطع النظير.
تخرج الطاهر من الزيتونة والتحق بسلك التدريس فيها، ولم تمض إلاّ سنواتٌ قليلة حتى عين مدرسًا من الدرجة الأولى بعد اجتياز اختبارها.
وكان الطاهر بن عاشور قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة ـ ذات المنهج التقليدي ـ والصادقية ـ ذات التعليم العصري المتطور ـ أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودوّن آراءه هذه في كتابه النفيس (أليس الصبح بقريب)؟ من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
وكان يكتب في مجلة المنار المصرية.
عين “الطاهر بن عاشور” نائبًا أول لدى النظارة العلمية بالزيتونة فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
ورأى أنّ تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
اختير الطاهر بن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1924م)، ثم اختير شيخًا للزيتونة في (1932م)، كما كان شيخ المذهب المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.
أعيد تعينه شيخًا للزيتونة (1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي تنمّي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم.
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة 1956.
كان “الطاهر بن عاشور” عالمًا مُجددًا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلاّ أنّ القضية الجامعة في حياته ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدًا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.
وكان لتفاعل “الطاهر بن عاشور” الإيجابي مع القرآن أثره البالغ في عقله الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببًا في فهمه لمقاصد الشريعة التي وضع فيها أهم كتبه بعد “التحرير والتنوير” وهو كتاب (مقاصد الشريعة).
وكان فقيهًا مجددًا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أنّ باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أنّ ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإنّ الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد.
ورأى أنّ هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأنّ قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلاّ القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأنّ بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتاب (مقاصد الشريعة) من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحًا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
محنة التجنيس..!!!
لم يكن “الطاهر بن عاشور” بعيدًا عن سهام الاحتلال والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أنّ المحتل الفرنسي أصدر قانونًا في (1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ ممّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر بن عاشور يتولى في ذلك الوقت (1933م) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية فأفتى المجلس صراحة بأنّه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن المحتل حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.
“صدق الله وكذب بورقيبة”
في يوم 5 فبراير/ شباط 1960، دعا الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في خطاب ألقاه العمالَ إلى إفطار رمضان لغاية زيادة الإنتاج، قائلًا:
“تونس البلاد الإسلامية تعاني درجة من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولذلك فإنه لا يمكن أن يعرقل جهادها أو يعطله أو يوقف انطلاقها أو يقعدها عنه فرض الصوم… فالصوم يحطّ من إمكانيات الفرد ويجعله لا يقوى على واجب هو ليس واجبًا شخصيًا بل واجب نحو أمّته ونحو دينه.”
وأضاف “وإذا اردتم أن يكتب الله لكم ثوابًا في الدار الآخرة فما عليكم إلاّ أن تعملوا بضع ساعات إضافية خير لكم من صوم لا عمل فيه يدفعكم إلى زيادة التقهقر.”
ولم يكتف الحبيب بورقيبة، بهذا الخطاب الذي يقلل فيه من فرض الصيام ويدعو إلى تركه، بل تبعه بالتطبيق، حيث قام في 28 فبراير/ شباط 1960 في خطاب ألقاه بالبالماريوم بالعاصمة التونسية بتناول كأس من العصير خلال شهر رمضان.
وحتى يقنع الشعب، بشرعية قوله، سارع الحبيب بورقيبة، الى البحث عن فتاوى، تصدق ما نادى به.
وطلب من مفتي تونس آنذاك، فضيلة العلامة الطاهر بن عاشور أن يفتي بجواز الإفطار بدعوى زيادة الإنتاج.
فوافق الطاهر بن عاشور على الظهور على شاشات التلفاز، والناس تنتظر ما يقوله، تلا الشيخ قوله تعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)” سورة البقرة.
ثم قال: “صدق الله و كذب بورقيبة” – “صدق الله و كذب بورقيبة” – “صدق الله و كذب بورقيبة”
وأفتى بحرمة الإفطار، وأن من يفعل ذلك، فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وأبطل دعوى أن الصيام ينقص الإنتاج.
فخرست الألسن، وما استطاعت الحكومة التونسية إلا أن تنسحب من الميدان، وأعلى الله فريضة الصيام في تونس، على يد الشيخ الطاهر بن عاشور.!!!
وعندما سأل ابن عاشور عن سبب موافقته على الظهور قال: خشيت أن يأتوا بغيري فيضل الشعب بفتوى تغضب الله. .
توفي “ابن عاشور” في (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
رحم الله العالم الفقيه ورزقنا علماء مثله يصدعون بقول الحق.
تمت
والى اللقاء في صفحة جديدة من صفحات التاريخ.
إقرأ أيضًا: صفحات من التاريخ – الصفحة الرابعة – الشيخ فرحان السعدي