مسيرة الحياة الإنسانية من كتاب الإنسان سافك الدماء
مسيرة الحياة الإنسانية من كتاب الإنسان سافك الدماء، الفصل الثاني، تأليف الدكتور نبيه عبد الرحمن عثمان غانم.
أيها الإنسان أخاطب وجدانك لا أخاطب ذاتك.
قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)} سورة غافر.
إنها آية واحدة أوجزت مسيرة الحياة الإنسانية في الحياة الدنيا، خلق الله آدم من التراب ثم وضع له ناموس بقاءه وصيانته ثم جعل نسله من ماء مهين، ومنذ خلق آدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها لم يتغير ذلك الناموس، فقد خلق الزوجين الذكر والأنثى وجعل بينهما مودة ورحمة، وبهما تتواصل الحياة الإنسانية.
قال تعالى {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)} سورة السجدة.
آية إعجاز ساطعة تصدح بقدرة الله، هل من مدع قادر على تغيرها أو تعطيل ناموسها الموحد في خلق البشر، وهل شذ عن ناموس الخلق هذا مخلوق واحد، سوى خلق عيسى عليه السلام الذي هو بنفسه من آيات الله العظمى وبرهان على قدرته في الخلق، فخلق عيسى من أم بلا أب. وبرزت طلاقة قدرة الله في الخلق حين خلق آدم من تراب وأوجده من عدم، ثم خلق حواء من نفس آدم بدون أنثى وتلك آية خلق أخرى، ثم خلق نسل آدم من ذكر وأنثى. هذه آيات الخلق الكبرى التي تشهد بقدرة الله في الخلق والإبداع.
أخاطب الكافر الذي يجحد حق الخالق القادر الذي خلق وأوجد كل شيء. أيها الكافر هل أمعنت النظر في نفسك؟ هل تأملت في جسدك وكيانك ومراحل خلقك؟ هل فكرت في مصيرك ومآلك ونهاية مسيرة حياتك ؟ تلك أدلة مضيئة لو فكر فيها الكافر لأنارت له سبيل معرفة ربه وخالقه ومبدع تكوينه، لو تأمل الكافر في نفسه وفي كتاب الكون من حوله فأنه سوف يرى آثار الله في كل شيء، لو نظر بعمق في جسده سوف يدرك مكانته وقدره بين سائر المخلوقات كما أراده الله.. فهو مخلوق مختار؟ خلقه الله بقدر.. وأوجده لغاية!
خلقه في أحسن تقويم، فهو الكائن الوحيد الذي تنتصب قامته معتدلة.. يطلق نظره في الأفاق.. يجوب أرجاء الكون محدقـًا مبصرًا لآيات الله، وهو سيدًا في الكون، وهبه الله القدرة على القيام بهذه المهمة، وأودع في نفسه مقومات تلك السيادة والسيطرة، إنه مخلوق عظيم في طبيعته، معجز في وظيفته، وفريد في غاية وجوده، وهو معجز في مآله ومصيره، إنه مخلوق لغاية! ولم يخلق مصادفة، ولم يخلق جزافًا، ولم يخلق عبثًا..
قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} سورة الذاريات.
وقال تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} سورة التغابن.
وأسال الكافر الجاحد؟ هل تشك أنك مخلوق من تراب! هل تريد أن تتيقن أنك مخلوق وأصلك من طين؟ هل الجحود أعمى بصيرتك؟ هل الكفر بلغ مداه في نفسك؟ هل تأصل الطغيان والفسوق في أعماقك؟ هل تأبى نفض غبار الفساد عن جسدك؟ هل تصر إتباع الهوى والانقياد للشيطان؟ هل تريد رؤية مآل ومصير كل إنسان؟ فإن أردت ذلك فالأمر يسير، لكنه يحتاج إلى شجاعة وإقدام، فما عليك إلا أن تذهب وتنبش قبر أي إنسان ميت، عندها سترى الحقيقة بينة، وترى الحق اليقين، عندئذ ارجع وكن في خلوة مع نفسك واسترجع شريط مسيرة الحياة، وأنا على يقين تام أن مشاعرك إن كنت صادقًا مع نفسك سوف ترتجف، ونفسك سوف تخشع وترتعد خوفًا ووجلًا .
أيها الكافر والفاسق والجاحد هل فكرت إلى أين تنتهي الحياة؟ هل فكرت في نهاية الإنسان وحاله تحت التراب؟ أين ذهب واختفى كل جبار عتيد؟! أين اختفى لحمه ودمه؟ وهل بقي شيء من جماله وماله وسلطانه؟ إنك لن تجد أثرًا لهذا الجبار، كل أعضائه تلاشت، فهل لكم من عبرة من حال ومصير كل كافر وجبار، كلهم إلى زوال قصر الأمد أم طال، هل بقي للكافر بعد الموت شيء من حياة؟ هل بقي فرح أم مرح؟هل دامت متعة؟ أين ذهب كل ذلك؟! أين ذهب سلطانه وجبروته وصولجانه؟ كله دس تحت التراب وهناك لا صدى لصوت ولا رنين لكلام، كل شيء زال وانتهى، ضاع المال والثراء، ما أصعب الحال! وما أسوأ المآل، كل شيء صار تراب، كل شيء عاد للتراب، إنه حقًا المآب!
أيها الكافر العنيد، أنظر إلى مصيرك بعد الموت، جسدك تحلل وعاد ترابًا، لحمك تعفن، ماء الجسد غار في الأرض، والروح عادت إلى خالقها واستقرت في ملكوت مبدعها، ولا نعلم مآلها وأين انتهى مصيرها وما هو موردها! وأعود وأسال الكافر هل أدركت الدرس وفهمت القصد والهدف؟ وأقول له وكلي استغراب واستنكار! كيف تعلم كل هذه الحقائق وتستمر تائهًا ضالًا في عالم الكفر والفسوق واللعنة؟! وإن كان جوابك أنك لا تعلم ولا تدري فالأمر جد يسير وسهل افتح قلبك وعقلك لنور الإيمان وسوف تعلم كل شيء ويهديك الله إلى سواء السبيل، وإن كنت تعلم وتصر على الكفر والعناد، أقول لك إنه عناد النفس وقسوة القلب وعمى البصيرة يصد العبد عن رؤية نور الحقيقة ويبعده عن طريق الهداية.
اعلم أيها الإنسان أنك من التراب وإليه! فلماذا كل هذا الكفر والعناد وأنت تعلم أين المنتهى؟ لماذا كل هذا الإلحاد ولديك العقل المدرك الواعي، يجب أن تعلم أنك إلى زوال ولا محال ولا بد لتراب الأرض عليك أن ينهال، وسوف تلقى وجه ربك تحمل الأعمال، فما الداعي للكبرياء وما قيمة العظمة وأنت إلى فناء؟!
أخي الإنسان أنظر إلى التراب في حالة النسيان، أسجد على التراب حين تتوه الأذهان، فلا تكن للتراب مفارقًا، فهو الأصل والمصير وهو أصل الغذاء والمقر والمأوى وفيه النهاية، إنه مستقر الإنسان ومستودعه، فما أعجب حاله يتعالى ويأنف من أصله ومقر مخدعه ونومه! أيها الإنسان كيف تأنف من التراب وأنت قابع فيه، ما أجهلك وأكفرك تنسى أصلك وتكفر بخالقك! جهلك يعمي بصيرتك، ويطمس على عقلك ويغشي عيناك عن رؤية الحق.
قال تعالى {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} سورة نوح.
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} سورة الحج.
أيها الإنسان، أسير النسيان، صريع الغفلة، يا من يغلبه الشيطان، يا من حياته ضعف ووهن، وعجزه يلازمه في كل حال وزمان، خلقت من ضعف التراب ومن ماء مهين وكنت جنينًا في جوف الأم في ظلمات ثلاث، ووهبك الله عطف أم ورعاية وحنان، كنت طفلًا صغيرًا عاجزًا بلا حول ولا قوة ولا آمان، وبإرادة الله صرت مخلوقًا وخرجت للكون ضعيفًا بلا عنوان تطلب العون وترجوا مساعدةً وتحتاج رعاية وحماية ودفء الأحضان، رضعت من حليب الأم قوة فأصبحت رجلًا ذا رنة وشأن تمشي في الأرض مرحًا وتيهًا وسيد زمان.. ثم انحدرت كهلًا وشيخًا، فهل دام لك الصولجان.. تلك مسيرة عمرك شئت أم أبيت أيها الإنسان، أيها الإنسان ذاك مشوار حياتك فهل من مذكر؟ أيها الإنسان، أيها الإنسان.
قال تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55)} سورة طه.
قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20)} سورة الروم.
قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} سورة الروم.
قال تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)} سورة فاطر.
قال تعالى {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)} سورة عبس.
قال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)} سورة المائدة.
أيها الإنسان أبن التراب، أمعن النظر في أصلك، وأطل التأمل في نفسك، لأنك سوف تهتدي بدون شك لآيات إعجاز تشير فورًا إلى عظمة الخالق المبدع، ثم ارجع البصر كرتين لترى أثار يد الله التي خلقت وأبدعت في مخلوقاته، وإرادة الله التي شاءت فمنحتك الحياة فكنت بشرًا كامل الخلقة شامل الصفات وتام القدرات والمهارات. أيها الإنسان إن قلبًا لا يرى آثار الله في كل شيء قلب أعمى يلفه جحود ويغبنه كفر وإلحاد.
قال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} سورة الحج.
وحين ندرس أحوال النفس البشرية فإنا نجد حقيقة واضحة جلية.. وهي أن النفس تصفو وتطهر حين تكون قريبة من أصل الإنسان وعنصر مادته. والإنسان ضعيف متواضع مستكين مبتهل لله حين يدنو الأجل ويقترب المصير ويشارف على إنتهاء مشوار الحياة.
وأقرب أحوال الإنسان صلة بالله وتضرعًا له حين يستشعر الضعف وينتابه المرض وتحل به الملمات فيتجه لله تائبًا داعيًا يطلب الرحمة و الرأفة والعفو وتهوين الخطب والمصاب، في أوقات الضعف والعجز حينها يتذكر ربه، ولا يعترف بالضعف إلا حين تمتد أصابع الزمن ترسم بصمات رحلة العمر على الملامح.
والإنسان يحس بهذه الحقائق عندما يقرأ كتاب نفسه ويترجم أحوال وأطوار عمره، ويدركها أيضًا حين يستعرض خطوات طريق حياته، صاعدًا هضبة العمر في مرحلة طفولة ضعيفة بريئة غير مكلفة و بلا مسؤولية وحساب، ثم يعتلي القمة في مرحلة قوة وشباب وإنتاج وتكليف وعطاء وحساب إنها مرحلة ريعان الحياة، ثم ينحدر هابطًا في مرحلة ضعف وشيبة وعجز و شيخوخة، ثم يرد إلى أرذل العمر حيث المرض والسقم والوهن والانحناء، بعدها يرقب الأجل وينتظر الوعد المحتوم لا محال.
الإنسان ضعيف في كل الأحوال وفي كل المراحل، ضعيف وهو ماء مهين ثم حمل ووضع وخروج، والنفس ضعيفة حين تعيش في الحضرة الإيمانية عبادة وخوفًا ورجاء ذلك هو الحصن من كل انحراف، والسياج الذي يصونها من الفساد والضلال والكبرياء والطغيان. تلك حالة الطهر والنقاء.
بالإيمان يصبح الضعف قوة، إنه حالة النفس التي أبصرت الحق فاتبعته فلا تعرف ولا ترى غير الفضيلة مبدأ، ولا تختار غير الخير والمعروف طريقًا، أملها بالله دائمًا معتمد متوكلة واثقة برحمته، عنوان حالها راضية قانعة بعطاء الله وقدره، تجاهد أبدًا في سبيل رضى الله، مستقرها دائمًا في مقام السكينة، تسترشد بنور الهدى، شاكرة أنعم الله. تنبذ الشر وتكره العدوان ولا تعرف الطغيان، زاهدة بالدنيا، تواقة إلى دار المقامة، فرحة بلقاء وجه ربها، تلهج بذكر الله، منهاج حياتها حبه وعبادته، إليه الاتجاه ومنه الخشية وعليه الاعتماد.