مثلث الصراع في حياة الإنسان “السلطة والمال والنساء” من كتاب الإنسان سافك الدماء تأليف دكتور نبيه عبد الرحمن عثمان غانم. تحدثنا في المقال السابق عن أحد أركان مثلث الصراع في حياة الإنسان وهو السلطة، يمكنك قراءة المقال من هنا.
المادة الضلع الثالث في مثلث اسباب سفك الدماء والشر في النفس البشرية، يخبر الله تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده الله وتوعده ووعظه. فقال تعالى: {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)} سورة العلق.
أي إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك الله على مالك من أين جمعته وفيم صرفته. الطغيان من أعظم أسباب هلاك الإنسان وهوانه على الله عز وجل، وما كفر من كفر ولا عصى من عصى إلا طغى وتجاوز حده، وحد الإنسان إنما هو الوقوف عند عتبة العبودية لله عز وجل بتوحيده وفعل المأمور وترك المحظور.
غاية الحياة الإنسانية
خلق الله الإنسان واستعمره في الأرض وجعله خليفة فيها يعمرها ويستخرج ما بها من نعم وآلاء سخرها الله له لتقيم حياته حركة وعطاء ونماء، ووهبه استعدادًا تامًا وقدرات كاملة متعددة تعينه على هذه المهمة، وخلافة الإنسان لله في الأرض خلافة عبادة وطاعة وشكر، هذا هو مفهوم الإسلام لغاية الوجود الإنساني.
قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} سورة الذاريات.
تلك هي غاية الحياة الإنسانية عبادة الله وطاعته وحمده وشكره، سامية الأهداف مقدسة القصد والغرض، ومسيرة حياة الإنسان على الأرض أوجدت المجتمعات الحضارية والتجمعات البشرية في كل زمان ومكان، ونشأ عن ذلك حياة مادية واقعها تلبية احتياجات الإنسان مادية ومعنوية، إنها متطلبات حياة عضوية غريزية تبقي عليه حيًا، وتمثلت احتياجات الإنسان بطعام يسد رمقه وماء يروي به ظمأه ومسكن يوفر له الدفء والمأوى وغطاء يواري سوأته ويستر جسده.
“اقرأ أيضًا: قصة خلق الإنسان – كتاب الانسان سافك الدماء والجوانب التي يتناولها“
المادة من احتياجات الإنسان
احتياجات الإنسان المادية موجودة في الأرض التي جعلها الله مقرًا ودار قراره ومهاده، أنبت فيها الزرع والأشجار فأعطت الخضار والثمار طعامًا شهيًا مسخرًا لبني آدم، وشق فيها الأنهار والينابيع ماءً عذبًا فراتًا لذة للشاربين.
قال تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} سورة البقرة.
قال تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53)} سورة طه.
قال تعالى {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} سورة النمل.
قال تعالى {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} سورة الجاثية.
قال تعالى {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)} سورة هود.
قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} سورة يونس.
قال تعالى {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24)} سورة الأعراف.
ومع تعاقب الأجيال والأمم في عمارة الأرض، وابتعاد الإنسان وغفلته عن منهج الله اختلفت النظرة والمفاهيم لغاية الوجود الإنساني، وتضاربت المعتقدات على مر العصور، فتلك جماعة تغلب الجانب الروحي المقدس في الكيان الإنساني فلا تعير متطلبات الجسد أهمية وتهملها وتعطلها، وغايتها تحقيق عالم الروح وإهمال وجود الجسد وبالتالي تعطيل مهمة عمارة الأرض.
وحين جعل الإنسان غاية وجوده متع الحياة الدنيا واللهو واللعب والتفاخر في الأموال والبنين واللهث وراء المادة زينة الحياة الدنيا وزخرفها، وانصب اهتمامه على توفيرمتطلبات حياته المادية وإشباع رغباته وشهواته دون الالتفات إلى مصدرها وكيفية الحصول عليها تاه وضل وآثر الحياة الدنيا ونسي الآخرة دار الخلود.
“قد يهمك أيضًا: الحياة الدنيا والدار الآخرة“
طغيان المادة
حين طغت المادة وهيمنت كما يحدث في عصرنا الحاضر وفي الدول الرأسمالية حيث أصبح الفرد أسيرًا للمادة عبدًا لها، فقد أهليته وإنسانيته في سبيل توفيرها والحصول عليها، ألقى بالمبادئ جانبًا وهو يلهث خلفها وكفر بمنهج الله وتخلى عن ضميره وضاعت أخلاقه وفقد مبادئه وضل سبيله وفقد أخلائه وغدر بأهله وعشيرته وخان أصدقائه وباع زوجته وقتل ذويه وأصوله وفروعه من أجل مادة فانية ومال زائل، كل ما يهمه هو امتلاك المادة والحصول على المال والتمتع به، غير مهتم إن كانت حلالًا أم حرامًا، لا يشغل باله في طرق امتلاكه أكانت من مصدر فضيلة أم من مصدر رذيلة.
لقد هوى إنسان هذا الزمان إلى سحيق الفساد، وهكذا تأكدت مظاهر الإنسان المادية فهو مخلوق ضعيف تغلبه شهوته المادية والجسدية أحيانًا ويحكمه هواه أحيانًا ويقعد به ضعفه دائمًا ويلازمه جهله بنفسه في كل حين، وأول مظاهر عجزه وضعفه خضوعه لإغراء الشهوات واستسلامه لاغواء الشيطان الذي يزين له حب المال والقناطير المقنطرة من الذهب الأبيض والأسود والماس ويصور له الخلود في الحياة الدنيا ويمنيه بالملك الذي لا يبلى.
وأصبحت الحياة الدنيا تستهوي الإنسان بزخرفها ومباهجها وزينتها ونسائها العاريات المائلات المميلات وجرفته في تيارها العاتي وانصرف عن عبادة الخالق وطاعته وصار عابدًا لفضائيات تبث الهوى والمجون والانحلال والإباحية، وتصرف البلاين على أهل الهوى والفن وأفلام الرذيلة والانحطاط والفسوق وهي بذلك تنشر الفن والإبداع اي فنن هذا وأي إبداع.
قال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} سورة الحديد.
قال تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)} سورة العلق.
آثار طغيان المادة
لقد أصبحت المادة شغل الإنسان الشاغل وأكبر همه، ومحور حياته، يفني وقته وعمره جريًا وراءها، نسي الله وتذكر المادة، فقد كرامته وعزته وعبد المادة ينسى عبادة ربه ولا يضيع لحظة من أجل المادة، يستخدم كل قدراته وملكاته ومهاراته وفطنته ودهائه في كسبها، ولا يشغله عبادة ربه لا يتوانى في الغش والاحتيال والخداع والنفاق كي يظفر بها ، وقد يرتكب الجرائم والآثام والموبقات كي يستولي عليها، سحرها يعمي عينيه، لقد ضل سعيه وفسد عمله وذهب عقله، وفقده آدميته وكرامته.
أليس ذلك جهل وكفر أيها الإنسان؟ المادة فساد إذا طغت، ووبال إذا هيمنت، وطغيان إذا كثرت، وجحود المنعم في عدم الشكر حين ينسى أنه بين يدي المنعم والمتقضل بالمادة والرزاق من بيده ملكوت كل شيء، وحين ينسى أنه إلى ربه راجع وبين يديه واقف، يغفل عن هذه الحقيقة بل كثر من ينكرها، ولا يعتقد بها، وكثر يهزأ بها ويهون منها، المادة من أسباب الشر الرئيسية في النفس، وأحد أضلاع ثالوث الشر في الكون، وهي المحرك للكثير من الصفات السلبية في النفس، وهي الدافع لأفعال الشر من قتل وعنف وسفك دماء ومبعث الصراع.
وهي من أسباب الحقد والحسد، وهي المحرض على الانحلال وسوء الخلق والغش والخداع والاحتيال والسرقة والاغتصاب ثم القتل وسفك الدماء، بسببها تنشب الحروب وتزهق الأرواح، بل أكاد أجزم أن لها حصة الأسد من بين دوافع الإنسان للقتل وسفك الدماء، فنظرة لأسباب الحروب والصراع الفردي والجماعي نجد المادة هي الدافع والباعث ، فالإنسان ومنذ خلق وهو في صراع أبدي للحصول عليها والاستيلاء على مصادرها، فيقدم على الاحتلال والاستعمار ويعتدي على الآخرين غايته الهيمنة علي المادة وامتلاكها والاستحواذ عليها وبسط نفوذه على كنوزها وخبراتها.
صراع الإنسان مع رغباته المادية
صراع الإنسان جهل وظلم لنفسه وبني جنسه وعدم فهم وإدراك لمنهج ربه، وكفر بحقيقة خلقه وغاية وجوده، وعجز وضعف حين لا يستخرج نعم ربه التي سخرها له، فجهله وعجزه أقعداه في مساحات ضيقة يعيش بها ويطلب الرزق فيها، فلا يجده أحيانًا، وهنا يبدأ الصراع، مع أن أرض الله واسعة والحق طلب من الإنسان وحثه على السعي في مناكبها طلبًا للرزق، وعمارة الأرض إحدى غايات خلق الإنسان.
وأشار الحق إلى أنه خلق الأرض للأثام مقرًا ومستقرًا ومستودع وجعل فيها رزقهم ومعاشهم فهي مصدر العطاء الذي لا ينضب أبدًا وإن تضاعفت أعداد البشر، فهي لا تضيق ولن تضيق بخلق الله أبدًا، لكن ما يتوهمه ويدعيه إنسان هذا الزمان من ضيق الأرض واكتظاظها بالعباد إنما هو ضعف وعجز وهراء، أرض الله واسعة شاسعة ولن تضيق بما رحبت، ولن تضن بالعطاء الوافر من رزق الله أبدًا، فالله خلق الأرض وأودع فيها الأرزاق وخلق الإنسان وقدر رزقه ، ويبقى سعي الإنسان وجهده وفكره وحركة حياته، فإن حرث الأرض وتعهدها طرح العطاء والرزق ودبت الحياة، وإن أهملها وقعد عاجزًا أسير فكر ومعتقدات جاهلة جفت الأرض وضاق عليه رزقه.
والدليل أن الإنسان يدعي الفقر وضيق الأرض، ويفتش عن مصادر الرزق المفقودة في نظره، وتحدث مجاعات، وتعاني بلدان من الفقر وتدني مستوى معيشة شعوبها، وتبذل الجهود للتنمية وتوفير حياة أفضل لمواطنيها، كل ذلك سعيًا مشكورًا.
لكن العجز في الإنسان نفسه وفي مجمل البشرية، فلقد أحجم الإنسان وابتعد عن زراعة الأرض واتجه بكل طاقاته وقدراته إلى مصادر رزق لا تفي باحتياجاته وطلبات حياته الأساسية الطعام، وبتوجهه هذا اختل ميزان حياته، أعطى الصناعة والكماليات والترف الزائف جل اهتمامه وأهمل مصدر طعامه وحياته، فظهر الفقر، ونقص الطعام، وتكدس الناس في رقعة ضيقة محدودة المساحة وأطلقوا عليها المدن، في حين أن هناك مساحات شاسعة أرضًا قفراء جرداء تتسع لجميع خلق الله رزقًا ومأوى وعطاء ونماء. لو سعى الإنسان في مناكب الأرض ما ضاقت ولا ساد الفقر ولا دب الصراع.
وظلم الإنسان لنفسه وأتباعه خطوات الشيطان، نأى به عن طريق الحق وإتباع منهج الله، فضل وأفسد في الأرض وسفك الدماء وقتل الأبرياء، وسلب حقوق الضعفاء، وحرم بني جنسه من الطعام والغذاء، ثم ادعى أن الأرض ضاقت وأصبحت الحياة شقاء، الحقيقة أن الأرض ضاقت بفساد الإنسان وظلمه، شعوره بالضيق هو من صنع يده ونتاج فكره وضيق أفقه. وكفر بربه، وطغى الشر، فظلم نفسه وغيره من بني فصيلته.
“قد يهمك أيضًا: الإدراك والتفكير عند الإنسان“
تعامل منهج الإسلام مع الرغبات المادية
منهج الإسلام جاء بأسمى وأعظم حل لكل مشاكل الإنسانية دون استثناء، لا أقول ذلك من واقع تعصب، بل هي الحقيقة مجردة من أي تعصب آو انتماء دون فهم أو إدراك، الإسلام جاء بالمذهب الشامل الكامل الذي نظم علاقات الأفراد والأمم المادية، جاء ليجمع بين المتناقضين ظاهرًا لكنهما متكاملين باطنًا وجوهرًا، فحب المادة وحب الله قد لا يجتمعان ظاهرًا، فمن أحب المادة كما يحدث ونرى في أحوال الناس حاضرًا، ينسى ربه، ويبتعد عن دينه، فبريق المادة يلهي النفس ويشغلها ويعمي نور بصيرتها، لكن منهج الإسلام جمع بين الضدين ولاقى بين المتقابلين، فلا رهبانية في الدين ولا تواكل وتقاعس، ولا هي حياة مادية كلها لهو ولعب ومتاع وتفاخر في الأموال.
الإسلام يدعوا لحياة إنسانية كريمة تجمع بين الدارين. فالمسلم مطالب بأن يلبي احتياجات الجسد والحياة من طرق الحلال مادة وسلوكًا وغرائز، وتحقيق غاية وجوده السامية صلة بالله عبادة وتقربًا وشكرًا وطاعة. وتطبيق منهج الله في عمارة الأرض يحث على العمل والتعليم واستخراج نعم الله، وجعل النشاط الإنساني الفردي أو الجماعي في مختلف المجالات الدنيوية العضوية والمادية العقلية والروحية.
قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} سورة آل عمران.
قال تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} سورة الأنعام.
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} سورة التوبة.
قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} سورة الكهف.
قال تعالى {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} سورة غافر.
قال تعالى {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)} سورة القصص.
عبادة خالصة لله طالما تراعي منهج الله ووفق شريعته وتطبيق تعاليمه ووفق نطاق حدوده، وما دام التوجه مستمدًا العون والتوفيق من الله. ومجمل الحركة الإنسانية هي منجزات الحضارة والعلم والثقافة، وكل نشاط عقلي أو ذهني أو حركي للإنسان يعتبر لبنة في صرح الحضارة الإنسانية، والإسلام يشجع ويحض على النشاط الإنساني بكل أشكاله لكنه يشترط أن يكون نشاطًا هادفًا مثمرًا في أوجه الخير، ومحققًا لعمارة الأرض وتطبيق منهج الله ومتوافقًا مع غاية الوجود الإنساني، وحركة الحياة البشرية والسعي في الأرض لتوفير متطلبات البقاء.
“اطلع أيضًا على: كيفَ تكون إنساناً مُثقفاً؟“
صراع الإنسان مع المادة أزلي
الحياة الإنسانية تعج بأسباب التناقض والتنافر والخلاف والتناحر الفكري والمادي والعقدي، وتضارب المصالح الفردية والجماعية، وهذا أوجد حالة الصراع بين الأفراد والجماعات صراع الإنسان على المادة بدأ منذ خلق أدم مستمر ومتواصل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، المادة تشغل حيزًا كبيرًا من تفكير الإنسان، وينصب معظم جهده سعيًا في الحصول عليها، وتوفيرها كي تتواصل مسيرة الحياة الإنسانية.
وحين نستعرض شريط أحداث الزمن ونقلب صفحات التاريخ نجد أن صراع الإنسان مع المادة قديم ومنذ خلق آدم، والحروب متواصلة مع الطبيعة ووحوشها وبقية الأحياء، ثم تكونت الجماعات والقبائل والشعوب والأمم، وأصبح لكل جماعة أرضها وحياضها التي توفر لها الغذاء والماء والمأوى، ثم دب الخلاف بين تلك الجماعات ومبعثه توفير المادة والسيطرة على مصادرها، واشتعلت نيران الحروب. واتسمت الحياة بالغزو والسلب والنهب والتشريد، كل قبيلة تغزو ديار القبيلة الأخرى تحتل أرضها وتسلب خيراتها، وتستبيح ديارها وتستولي على ممتلكاتها، وتنهب أموالها، وتسبي نسائها وتعود بالغنائم والأسرى.
وامتدت تلك العادات قرون طويلة من الزمن وحين تطورت الحياة الإنسانية وتكونت الدول واختصت كل منها بحدودها الجغرافية وترابها الوطني أصبحت كل دولة تشكل كيانًا مستقلًا منفصلًا عن باقي الدول من حيث الأرض والسكان ونظام الحكم والقوانين والثقافة والاقتصاد، لكن هذا الانفصال غير حقيقي ووهمي لأن مصالح الدول تتشابك وتتداخل أمنيًا واقتصاديًا وثقافيًا وجغرافيًا، وهذا بدوره خلق نوعًا من التضارب والخلاف على المصالح قد يتبعه صراع وحروب.
وقد يكون هناك تعاون مثمر في جميع المجالات غايته جلب المنافع والتعاون المشترك والمتبادل بين الدول، من أجل تحقيق مصالحها، أصبحت كل دولة قوة اقتصادية بحجم معين، ويعتمد ذلك على كميات الموارد المادية المتوفرة لديها، وعلى مدى تطورها الفكري والاقتصادي، والموارد المادية لكل دولة هي نتاج ترابها الوطني وثمرة النشاط الحركي العملي للأفراد في كل مجالات العمل الزراعية والصناعية والتجارية، ويطلق عليه الدخل القومي، ولتنمية هذا الدخل تضع الدول خطط التنمية الذاتية التي بها تضمن ازدهار دخلها وتحقيق كسبًا في مواردها المالية المادية، وفتح مجالات العمل لمواطنيها، هذه صورة مبسطة لكيان الدول وأنظمتها المادية.
ومن هنا صارت كل دولة تعنى بذاتها ومصالحها، وإذا تعارضت المصالح دب الصراع، وظهر الطمع وبرزت غريزة حب الذات بأجلى صورها، وسادت صفات الشر التي تحركها المادة، وأخذت الدول تحيك وتدبر المؤامرات والفتن ضد بعضها البعض وتعد العدد والجيوش للحرب لتنفيذ أهدافها وأغراضها المادية، وهو ما نتج عنه ظهور الاستعمار العسكري والمادي، الذي احتل الدول الضعيفة واستولي عليها وحكمها واستغل مواردها وسلب خيراتها واستعبد أبنائها.
ونتيجة لهذا الظلم الفادح الذي عانت منه الدول المستعمرة قامت حروب التحرير وخاض أبناء الدول الضعيفة حروب شرسة ضد جيوش الاستعمار راح ضحيتها أعدادًا غفيرة من البشر ويستمر الصراع حتى تحقق النصر وتجلى المستعمر وبعود مهزومًا يجر ذيول الخزي والعار، وتحرر بلادهم ويمسكوا بزمام أمرهم وينالوا حريتهم وتعود لهم بلادهم بخيراتها يستغلونها في تنمية أنفسهم وحياتهم، وتقدم شعوبهم.
الاستعمار بكل صوره مظهر لصفات الشر دافعه غريزة حب الذات ونزوة الطمع والاستغلال، الاستعمار عنوان ظلم وعدوان من البشر علي بني جنسهم، دوافعه السلطة والمادة، ونتائجه الاستعباد والسلب والقتل وسفك الدماء، ولولا بريق المادة ما تحركت جيوش وأساطيل دول الاستعمار وما خاضت الحروب والمعارك وخسرت الأرواح، أليس هذا دليل أخر على ظلم الإنسان وجهله، اعتدى على بني جنسه وانتهز ضعفهم وعجزهم فانقض عليهم، أليس هذا هو الفساد في الأرض، والقتل وسفك الدماء.
“اقرأ أيضًا: صفحات من التاريخ – الصفحة الأولى – الشيخ الشهيد عز الدين القسام“
تدبير الإنسان العاقل لحاجاته المادية
إن عقل الإنسان وإن تميز ببداهة التفكير وعمق الإدراك وبلاغة الفهم والحكمة والتدبير، إلا أن الجهل يلفه وأوجه العجز والقصور الفكري تغلب عليه أحيانًا وتهيمن على قواه الذهنية والنفسية، وأسوق هنا بعضًا من نواحي القصور في التصور الفكري الإنساني في مجال صراعه على المادة، لو نظرنا إلى خريطة العالم ودققنا في مساحة الأراضي المستغلة زراعيًا التي يستخرج منها الإنسان متطلبات حياته المادية لوجدنا أنها مساحة لا تتعدى ثلث مساحة الأرض، والباقي ما زال أرضًا عذرًا بور تنتظر من يعمرها ويدب الحياة فيها.
ولو أن الإنسان اتجه بفكره وجهده لعمارة تلك المساحات الشاسعة فإنه سوف ينهي تمامًا مشكلته المادية الاقتصادية وما لجأ إلى الصراع والقتل وسفك الدماء بغير الحق ظلمًا وعدوانًا، ولتحقق الرخاء وعم الخير وعاشت البشرية في وئام وسلام، وقد يقول قائل ما تقوله هذا كلام نظري ولا يغيب عن تفكير أهل العلم وذوي السلطة لأن تنمية تلك المساحات يحتاج طاقات مادية هائلة تعجز عن توفيرها كثير من الدول، والرد على ذلك لو أن الإنسان كل إنسان اعمل عقلة وعاد إلى نفسه واتبع منهج ربه وأقصي العناد والصلف والتعصب وطرد الشر وآثر الخير في حياته ولا أخص الإنسان بصفة الفرد فقط إنما أعمم ذلك على صفة الأمم.
ليس هذا بتصور نظري أو خيال فكري، إنه حقيقة صادقة واعتمد في رأي هذا على حقيقة جوهر الإنسان الطيب. لو عاد الإنسان إلى منهج الخير لوجد التعاون والتكامل والتآزر منهج حياة البشرية، والمال متوفر ومتراكم في خزائنها، لكن سوء التوزيع وأنظمة السلطة القائمة في سائر بلدان العالم هي العقبة التي ترفض التعاون وتستأثر بالمال تنفق منه على البذخ ومجالات اللهو واللعب وتأبى استغلاله لصالح تنميه المشاريع التي تحل مشاكل الإنسانية الاقتصادية، وتؤثر صرف الأموال الطائلة في أوجه الشر والقتل وسفك الدماء على أن تصرف في أوجه الخير التي تخدم الإنسانية.
وخير مثال على ذلك ميزانيات الدفاع والتسلح وبرامج الفضاء وغير ذلك إنها تكفي لتنمية كل الكرة الأرضية لملايين السنين، أليس هذا جهل الإنسان؟! ينفق الأموال بسخاء على وسائل القتل والدمار والإبادة، ويرفض إنفاقها في عمارة الأرض. لكن جهله يقعده عن السعي والعمل والانتشار ويبقى حبيسًا لفكره الضيق فيتجمع ويتجمهر في رقعة ضيقة ويترك أرض الله قفراء جرداء بلا حياة.
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} سورة النساء.
قال تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} سورة التوبة.
قال تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)} سورة ق.
قال تعالى {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} سورة الرحمن.
قال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} سورة الحج.
قال تعالى {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21)} سورة غافر.
قال تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} سورة الشورى.
قال تعالى {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)} سورة العنكبوت.
قال تعالى {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} سورة النور.
ومن الغريب والمدهش والذي يتم عن جهل حقيقي في الفكر الإنساني أن بعض الدول المتجاورة قد ينشب بينها حروب وصراع وتزهق الأرواح وتدمر الديار ويهلك الزرع والحرث، من أجل رقعة أرض ضيقة يحدث خلاف عليها أثناء ترسيم الحدود وخلافه، بينما نجد أن معظم أرض الدولتين غير مأهولة أو مستغلة ومهجورة قاحلة، أليس هذا من صور جهل الإنسان وظلمه؟!
ولو أن الإنسان تدبر منهج الله واتبع تعاليمه لوجد فيه ما يقيه ويحميه من سطوة الشر الكامنة في ثياب المادة ولطهر نفسه من عبودية الأنانية الذاتية والطمع والجشع والاستغلال، وسوف يجد كل الحلول الشافية لجميع مشاكله المادية والنفسية والاجتماعية، والله سبحانه وتعالى خالق الإنسان والأرض وواهب النعم والأرزاق دعا ابن آدم للسعي في مناكب الأرض يبحث عن رزقه المكتوب والمقدر بعلم الله، واخبره أن رزقه غير محدود بمكان أو زمان.
إنه رزق وزعه الله على عباده ولم يختص مكان معينًا بالرزق ولم يربطه بزمن وحين وصف الله الإنسان بأنه ظلومًا جهولًا، فكان ذلك كمال الدقة في الوصف فهو العالم بمن خلق، وحركة حياته خير شاهد وأعظم برهان على كمال الوصف وعظمة من وصف، فالإنسان أنفق الأموال التي لا حصر لها على مر العصور في حروبه الدامية، وسفك الدماء وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، ودمر حضاراته المتعاقبة، وأهلك الزرع والنسل في صراعه المرير على المادة، بينما أرض الله واسعة ورزقه وفير في كل أرجاء المعمورة، ولم يختص الله مناطق دون أخرى.
ويثور تسائل واستغراب مما يفعله الإنسان في هذه الحياة، ونقول لو أنه أنفق الأموال التي صرفها في حروبه في كل زمان ومكان على عمارة الأرض وزرعها ورعايتها ونماءها وتعميرها، هل من شك أن وجه الأرض سوف يتغير وحال الإنسان سوف يتبدل؟! ويزول الصراع وتتوقف الحروب وتصبح في طي النسيان وذاكرة الزمان، ويختفي الفقر ويعم الرخاء ويسود الحب والوئام، ولأصبحت الأرض جنة خضراء، ووجه الحياة ساطع وضاء، فما أجهل الإنسان يهدر الأموال هباءًا منثورًا عبثًا وفجورًا، ولا يهدر الأموال وحدها بل يقتل البشر في رحى الحروب، وكان الأجدر به أن يجعل منهم معاول في عمارة الأرض.
أي جهل هذا الذي ابتلي به بني آدم! أي فكر هذا الذي يوجه الإنسان! إنه الجهل والظلم! إنه الشر الكامن في الأعماق خلف ستار المادة! يدفع الإنسان للفساد ويحثه على الضلال، ويحبب له القتل وسفك الدماء، ويزين له الطمع والحقد والحسد، ويثير في نفسه نزوات حب الذات والسيطرة والاغتصاب والاستيلاء، كل ذلك شر تحركه المادة ويوسوس له الشيطان، إنه قيثارة إبليس يعزف عليها فتطرب لها النفوس وتترنح لها الأجساد وتهيم بها العقول، تتيه شجًا فتصم الآذان عن سماع صوت الحق ونداء الضمير، وتغشي العيون فلا تبصر نور الحقيقة، إنها زينة الأرض والحياة الدنيا.
صراع الأفراد على المادة له مظاهر وصفات وأنماط مختلفة عن صراع الجماعة أحيانًا، لكن الهدف واحد. فنجده صراع على الإرث أو الملكية، والحيازة، وصراع في البيع والشراء والكيل والميزان، ومظاهره الغش والبخس والغبن وأكل الأموال وعدم الوفاء بالدين ونقض العهد، والخداع والنفاق، والمكر والوقيعة والتزوير والتحايل والسرقة والنهب وقطع الطريق، إنها مظاهر الشر المستطير، والوبال الخطير.
قال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} سورة الكهف.
قال تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)} سورة العلق.
قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} سورة الكهف.
قال تعالى {مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} سورة المسد.
“اقرأ أيضًا: حرمة قتل النفس البشرية – كتاب الإنسان سافك الدماء“
طغيان الإنسان
إن أسباب الطغيان متعددة؛ فمن الناس من يطغيهم ملكهم، وشَرُّ سَلِفٍ لهم فرعون الذي ظن لنفسه فضلاً على كليم الله موسى عليه السلام قال كما جاء في قوله تعالى: {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} سورة الزخرف. ثم جاوز الحد في الطغيان حتى قال كما جاء في قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)} سورة النازعات.
ومنهم من تطغيهم قوتهم وهؤلاء سلفهم عاد قوم هود حيث قالوا كما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} سورة فصلت.
ومن الناس من تطغيهم أموالهم وسلفهم قارون الذي قال كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} سورة القصص، ثم لم يلبث أن اختال بما أوتيه من مال، فقال كما جاء في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} سورة القصص.
والجزاء في منهج الله من جنس العمل؛ فلما كان الطغيان علواً في الأرض بغير الحق كانت عاقبته الذلة والهوان، أما فرعون الذي غره ملكه وادعى أنه الرب الأعلى فقد سلبه الله ملكه وغيبه أسفل اليم وملأ فمه طيناً ثم جعله الله لمن خلفه آية، وأما عاد الذين غرتهم قوتهم فقد أخزاهم الله وأرسل عليهم جنداً من جنده.
قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16)} سورة فصلت.
وأما قارون الذي اختال على الناس بكنوزه وأمواله وعلا بها عليهم فقد صيره الله عز وجل أسفل سافلين، قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)} سورة القصص. هذا في الدنيا وللظالمين أمثالها؛ وأما في الآخرة فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39)} سورة النازعات.
وليس الطغيان قاصراً على أهل الكفر والعصيان، بل قد يطغى المرء وهو من أهل الطاعة إن رأى نفسه استغنت بشيء من النعم؛ من العلم أو العبادة أو النسب، أو غير ذلك. إن للعلم طغياناً كطغيان المال، وهذا إن ترفع به صاحبه على من دونه ولم يزكه بالعمل به، أو إن دفعه علمه للتحايل على شرع الله وتتبع الرخص. أما العبادة فمن العُبَّاد من يرى لنفسه فضلاً على من هم دونه فيها ولا يراهم إلا مقصرين وكسالى مع أن منهم من في قلبه من الإيمان أضعاف ما في قلبه هو، ومن العُبَّاد من يحسب أنه هو الناجي وحده وكل الناس هلكى.
وفي الحديث حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ” أي أنه أكثرهم هلاكاً.
وأما النسب فالتطاول به على الناس من أمور الجاهلية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه الشريفتين، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام خطب الناس يوم فتح مكة فقال: “يا أَيُّها الناسُ ! إنَّ اللهَ قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ ، وتعاظُمَها بآبائِها ، فالناسُ رجلانِ : رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ ، والناسُ بَنُو آدمَ ، وخلق اللهُ آدمَ من ترابٍ؛ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” أخرجه الترمذي، وأورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
هذا، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته أشد تحذير من نوع خفي من الطغيان وهو أن يعمل الرجل عملاً صالحاً في ظاهره الذي يبدو للناس بينما هو لا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى، فقال عليه السلام: “إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ اسْتُشْهِدَ ، فأُتِيَ بهِ ، فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ ، فعَرَفَها ، قال : فما عمِلْتَ فيها ؟ قال : قاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْتَ ، قال : كذبْتَ ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لِيُقالَ جِريءٌ ، فقدْ قِيلَ ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ ، ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعلَّمَهُ ، وقَرَأَ القُرآنَ ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ ، فعَرَفَها ، قال : فما عمِلْتَ فيها ؟ قال : تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتَهُ ، وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ ، قال : كذبْتَ ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ عالِمٌ ، وقرأْتَ القُرآنَ لِيُقالَ : هو قارِئٌ فقدْ قِيلَ ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ ، ورجُلٌ وسَّعَ اللهُ عليْهِ ، وأعْطاهُ من أصنافِ المالِ كُلِّهِ ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فعَرَفَها ، قال : فمَا عمِلْتَ فيها ؟ قال : ما تركْتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفقْتُ فيها لكَ ، قال : كذبْتَ ولكنَّكَ فعلْتَ لِيُقالَ : هوَ جَوَادٌ ، فقدْ قِيلَ : ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ ، ثمَّ أُلْقِيَ في النارِ”.
ولو تأمل المرء في كل صور الطغيان لوجد أن مرجعها جميعاً إلى خلل في التصور وفساد في العقل، فمن لم يعرف قدر ربه جل وعلا فيقدره حق قدره، ولم يعرف قدر نفسه وحقيقتها وافتقارها وعوزها إلى خالقها سبحانه، غره ما قد يجده منها من استغناء عما سواها – في الظاهر – فيوقعه سوء فكره في الطغيان.
قال تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)} سورة العلق.
وسلفه في هذا إبليس الذي أوقعه سوء فكره في قياس فاسد فعارض أمر الله سبحانه وتعالى قائلاً: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)} سورة الأعراف. ولئن ذكرت آيتا العلق سبب الطغيان فإن العلاج الرباني لم يتأخر فجاء الكلام مذكراً ومنبهاً {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)} سورة العلق.
وهذا درس وعبرة وتذكير لكل من طغى: هل تعلم أنك إلى الله راجع وهل تعلم أنك بين يديه موقوف مسؤول فعليك أن تعد لكل سؤال جواباً. فإذا كان الأمر كذلك، فلم كل هذا الطغيان الذي نراه من الناس؟! إن طبيعة بعض البشر.. خاصة الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، وينسلخون من عبودية اللّه، ويرفضون الإعتراف بأحكامه، ويصمّون أذانهم عن ندائه، ولا يراعون حقّاً ولا عدلاً.
يعمى الطاغية عن رؤية نور الحق الساطع، أنه لا الإنسان ولا أي مخلوق آخر قادر على أن يستغني عن الله خالقه والمنعم عليه بوجوده وفيض نعمة، بل كلّ الموجودات المخلوقة بحاجة إلى لطف اللّه ونِعَمِه، وإذا انقطع فيضه سبحانه عنها لحظة واحدة، ففي هذه اللحظة بالذات تفنى وتندثر، غير أنّ الإنسان يحسّ خطأ أحياناً أنّه مستغن غير محتاج.
والقرآن يشير إلى هذا الإحساس بعبارة دقيقة يقول: قال تعالى {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)}، لم يقل إن استغنى. قيل: إنّ المقصود بالإنسان في الآية أبو جهل الذي نزلت به الآية وكان يطغى أمام الدعوة لكن مفهوم الإنسان هنا عام، وأمثال أبي جهل كثر ثمّ يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية: {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)} وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه، وكما إنّ رجوع كلّ شيء إليه، وميراث السماوات والأرض له سبحانه:
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} سورة الحديد.
فكل شيء في البداية منه، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالإستغناء ويطغى. حين يؤمن الإنسان بأنّه في كلّ حركاته وسكناته بين يدي اللّه، وأنّ عالم الوجود بين يدى الله سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيء من عمل الفرد بل من نواياه، فإنّ ذلك سيؤثر على منهج هذا الإنسان في الحياة تأثيراً بالغاً، ويصدّه عن الإنحراف، إذا كان إيمانه ـ راسخًا في قلبه، وكان اعتقاده قطعي لا تردد فيه.
أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، ولِقَائِهِ، وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ الآخِرِ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإسْلَامُ؟ قالَ: الإسْلَامُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإحْسَانُ؟ قالَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ: ما المَسْئُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، ولَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عن أشْرَاطِهَا: إذَا ولَدَتِ المَرْأَةُ رَبَّتَهَا، فَذَاكَ مِن أشْرَاطِهَا، وإذَا كانَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِن أشْرَاطِهَا، في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ: (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنْزِلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما في الأرْحَامِ) ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقالَ: رُدُّوا عَلَيَّ فأخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شيئًا، فَقالَ: هذا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ. ًصحيح البخاري.