الزهد في الدنيا والعمل للآخرة

[faharasbio]

الزهد في الدنيا والعمل للآخرة

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تلك عباد الله تذكرة لأولي القلوب، وتبصرة لذوي الألباب، إن من هداه الله وأيقظ في نفسه وقلبه رسوخ اليقين وجلى بصيرته عن حق اليقين وهو أن الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل وعبور، وأن الآخرة هي دار القرار والخلود والنعيم والحبور، لزهد في الدنيا وألقى خلفه كل ما فيها، ولشغله التمسك بغاية وجوده في هذه الحياة وهو عبادة الله والتقرب إليه والفوز برضوانه وضبط حركة حياته وسعيه في مناكب الأرض وفق مراد الله ومشيئته ومنهج الإيمان به ربًا خالقًا، وهمه أن يسارع في سبيل أن يسلك طريق الهداية وهمه إدامة التفكر في آيات الله الدالة على عظمته، وملازمة الاتعاظ والأذكار، ويلهج لسانه دائمًا دعائًا وذكرًا بحمد الله وشكره والتبتل إليه كي ينال توفيق الله وعونه ورضاه، يجتهد دائمًا للدأب في طاعة الله ويجاهد النفس كي تبقى دائمًا وأبدًا في الحضرة الإلهيَّة تنبذ الكفر والفسوق وتعتصم بحبل الله المتين قولًا وفعلًا، قال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} سورة الإسراء.

الحياة الدنيا لها تكاليف منهج الإيمان فهو غاية خلق الإنسان، خُلق من أجل اتباعه والعمل به، ولذلك كانت الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل، والحياة الآخرة لها غاية فهي دار حساب وقرار بلا عمل، ومن مسلمات العقيدة أن يعلم المؤمن غاية الوجود في الدنيا وغاية الوجود في الآخرة، فالآخرة دار جزاء، و دار نعيم مقيم لمن نجح في الابتلاء، والآخرة دار شقاء وعذاب أليم لمن لم ينجح في الابتلاء، الدنيا دار عمل والآخرة دار تكريم، الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، الدنيا دار عبادة وطاعة وامتثال لمنهج الله وليست دار لعب ولهو وتفاخر وتكاثر فى الأموال والأولاد وليست دار صراع وقتال وظلم وبهتان، إنها دار امتحان، الإنسان ممتحن بها فى كل شيء سخره الله له، أعطاه الله المال مادة امتحان وابتلاء، سواء في العطاء أو المنع. أعطاه الصحة وهي مادة امتحان وابتلاء سواءً في العافية أو الاعتلال، جعله قوياً والقوة مادة امتحان، وجعله ضعيفاً والضعف مادة امتحان، الإنسان ممتحن فيما أعطي وفيما زوي عنه، فكل شيء مسخر للإنسان في الحيادة الدنيا هو مادة امتحان وابتلاء، قال الله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} سورة الرحمن، وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} سورة الحديد، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} سورة آل عمران.

الإنسان ظلوم جهول لأنه يعبد الدنيا بقصير نظره وضعف عقله وفقدان بصيرته مع علمه اليقين بأنه سيخرج منها مهما بلغ من العمر، وإن ملك القوة وصار عتيًا ومهمًا علا فى شأنه ومكانته وعم عليه الثراء والرخاء، ومهما امتلك من القوة والجبروت والصولجان والأمن والأمان، ومهما طغى واعتدى فهو مفارق لا محالة لكل أجل كتاب، والإنسان بجهله دائمًا يحدوه الأمل وتملأ نفسه الاعتقادات والأوهام والغرور والكبرياء أنه دائم في الحياة الدنيا وأنه سيعيش أبدًا، وأن الموت في نفس الإنسان الذى غرته الحياة الدنيا هو شك.

وبالرغم أن الموت الحق اليقين على كل نفس، وأن كل نفس ذائقة الموت، إلا أن الشك دائمًا يمنى النفوس بالباطل ويزين لها حب الدنيا وكراهية الموت وهذا فعل الشيطان وأقوى أسلحته فيعيش الإنسان في غفلة من أمره ويبتعد عن غاية وجوده في عبادة الله ورضوانه، ويؤثر الحياة الدنيا بالرغم من يقينه أن الدنيا دار ابتلاء وأنها إلى زوال، لكنه يعشق زينتها ويتيه بين دهاليز زخرفها وشهواتها وتصبح هي أكبر همه ومبلغ علمه.

وهذا حالنا في هذا الزمان، تاهت معظم النفوس بين وسائل الضلال والفساد وأعمال الفجور في كل مجال، واستشرى وعم الفسوق والموبقات، وطغى الظلم والبهتان والباطل، وأحل الحرام وحرم الحلال، وهيمنت المادة واستفحل الكذب والبهتان، وضاعت الأمانة وانتشرت الفواحش والرذيلة، وأصبح الناس في غفلة في طغيانهم يعمهون.

والإنسان على كل ما استودع الله فيه من أمانة الخلافة في الأرض وعلى كل ما سخر الله له في الكون من قوى وطاقات وموجودات ونِعم، وعلى كل ما أودع الله فيه من طاقات العلم والمعرفة والإدراك والاستعداد، فهو مخلوق ضعيف تغلبه شهواته أحيانًا ويحكمه هواه تارة ويقعد به ضعفه حينًا ويلازمه جهله بنفسه كل حين.

ومنهج الله سبحانه وتعالى هو اختبار لحب الله في النفس، ونفث الشيطان ووسوسته هو امتحان لحب الله في النفس، وأحداث الحياة الدنيا كلها إما حب لله وطاعته وإما كفر بالله وحب من دونه ومعصيته فاتقوا الله، فالتقوى هي الكنز الأوفى، والدرع الأقوى، يقول الله جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} سورة الذاريات، وهذا بلاغ إلهي و تصريح واضح جلي تدركه العقول وتفهمة الألباب بأن مراد الله في خلق الإنسان مراد واحد هو عبادته جل جلاله، فكان واجب التكليف حق لله على عباده يوجب الطاعة والامتثال منهم لخالقهم وموجدهم من العدم، عليهم الحرص والعمل لما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهد، فإنها دار فناء لا دار خلود، وأنها مركب عبور لا منزل حبور ورفاهية وجحود، فلهذا كان أيقض الناس من أهل الدنيا هم العباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} سورة يونس.

والناس فى هذا الزمان يعيشون حياة الغفلة والانبهار بزخرف الحياة الدنيا وزينتها، وأخذت الألباب وسائل الرفاهية الفارهة من طائرات وسيارات فخمة ومساكن وقصورمشيدة ومنتجعات ومواخير لهو ولعب وترفيه وفضائيات جعلت الأرض كلها مرتع لهووضلال وانحلال وغفلة عن غاية وجود الإنسان، وبثت سموم الشيطان فى موجات بثها عبر الفضاء، وانتفت الحواجز والحجب لتصل إلى كل أرجاء الأرض وأسقاعها، وساهمت وسائل الأتصال المتطورة والحديثة بقدراتها العظيمة في تقريب كل بعيد، وانتفت المسافات واختفت الموانع وكشف كل مستور.

ناهيك أن الإنسان أسلم كل طاقاته وقدراته، وتلك هي الطامة الكبرى، ليمتلك ويطور كل وسائل الدمار والفناء والإبادة، التى هي كفيلة بإبادة كل من على وجه الأرض، ويعتقد أهل القوة والأسلحة الفتاكة والثراء أنهم أصبحوا يملكون ويهيمنون على الحياة الإنسانية بقوتهم وقدرتهم وبما لديهم، لكن الله حذرهم من أن أمر الله قادم ليجعل ما على الأرض حصيدًا جرزًا وما له من دافع، والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

أيها الإنسان، إن غاية خلق الإنسان واحدة هي عبادة الله وتوحيده، إذا استحضرت العقول تلك الحقيقة فقد اهتدت وسلكت سبيل الصراط المستقيم ونالت الغبطة والحبور، وإن تيقنت أن الله خلق المخلوقات لعبادته والإنابة إليه وهم لا يستكبرون عن عبادته والسجود له، وأن الإنسان هو الفقير إلى الله خالقه، والله هو الغنى الحميد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩ (206)} سورة الأعراف، وقال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} سورة آل عمران، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} سورة فاطر.

الإيمان هو طوق النجاة وبر الأمان في بحر الزمان الهادر بالكفر والإلحاد، إنه من تمام عدل الله الذي استدعى الإنسان للوجود أن وفر له مقومات حياته الأساسية فخلق الكون مسخرًا لخدمته وخلق أجناس الوجود في خدمة بعضها البعض توافقًا مع ضرورة البقاء، ومن تمام عدل الله وحكمته أن أعد الإنسان إعدادًا تامًا قبل أن يهبط به للأرض.

لو أدرك الإنسان حقيقة دوره في هذا الكون ولم يحاول تجاوزه واتخذ منهج الله دستور حياة واطمأن إلى أن دوره مقدر معلوم من الله بحسب حقيقته في عالم الوجود؛ لو أدرك الإنسان هذا كله لطمأن واستكان وتواضع وآمن بربه حق إيمان وعاش في أمن وأمان وسلام مع نفسه ومع الكون من حوله، وجعل كل جوارحه ونفسه وروحه في استسلام وطاعة وعبادة وتقرب لله خالقه، ونال بذلك خير الدنيا وثواب دار الخلد والنعيم المقيم وحظي برضوان رب العالمين.

[ppc_referral_link]