السلطان الفلبيني لابو لابو
قرأنا ودرسنا فيما مضى الكثير عن المستكشف البرتغالي “فرديناندو ماجلان”، الذي كان على حد زعم كتب التاريخ أول من اكتشف أن الأرض كروية، فاستطاع أن يعبر بسفنه مضيقًا يقع بين أمريكا الجنوبية وجزيرة أرض النار ليصل بعدها للمحيط الهادي، قبل أن يقتله فلبيني من آكلي لحوم البشر في جزر الفلبين، لتنتهي بذلك حياة ذلك الرحالة البرتغالي العظيم.
ولكنهم لم يقولوا لنا أنه قامت في الفلبين حضارة إسلامية عامرة منذ أكثر من ثمانية قرون وقد قامت هناك العديد من الممالك الإسلامية التي دافعت عن جميع الجزر ضد غزوات وأطماع المحتلين، وقد ساهمت هذه الممالك في تأصيل الوجود الإسلامي والحفاظ على العقيدة والهوية الإسلامية، ومن هذه الممالك إمارة الشريف أبي بكر في جزيرة “سولو”، وإمارة الشريف محمد بن علي في جزيرة “ميندناو”، وإمارة السلطان “لابو لابو” في جزيرة “ماكتان”.
والآن وبعد كل هذه السنين.. وبعد البحث في التاريخ تبين لنا كم كنا مخدوعين! فالذي لم تذكره كتب التاريخ العربية والغربية على حدً سواء، أن ذلك المستكشف البرتغالي الشجاع لم يكن سوى قسيسٍ لص، هرب من كنيسته في البرتغال بعد أن اكتشف الناس سرقاته للفقراء، وفي عام 1514 عرض خدماته على ملك البرتغال «عمانويل الأول»، كقبطان متمرس طالبًا منه تجهيزه بالسفن اللازمة للقيام بمغامرته البحرية، لبسط نفوذ البرتغال على جزر التوابل الواقعة جنوب شرق آسيا وقد رفض طلبه، فما كان من ماجلان إلا أن سرق خرائط الملاح جون كابوت وهرب بها إلى إسبانيا.
وكانت تلك الخرائط سرية نادرة، رسمها الملاح البرتغالي «جون كابوت»، وهي تعد من الوثائق البرتغالية السيادية؛ لأنها تشتمل على أدق تفاصيل المسالك الملاحية، والخطوط الساحلية، والمسطحات المائية في المحيط الهندي، ومقتربات الخليج العربي، التي كانت تعد آنذاك من «حصة» البرتغال، بينما كانت سواحل غرب الأطلسي هي «حصة» إسبانيا بموجب معاهدة «تورديزلاس» الموقعة بين البلدين عام 1494.
اعتبرت البرتغال ماجلان خائنًا في حين رحبت به إسبانيا، واستقبله ملكها، ووفر له الرعاية والحماية، وعده مواطنًا إسبانيا من درجة النبلاء، وأبدى موافقته واستعداده لتهيئة خمس سفن عابرة للمحيطات، وضعت جمعيها تحت تصرف ماجلان، كي يقودها بنفسه وفي مقابل ذلك، وافق ماجلان على أن يعلن بأن كل ما يكتشف من أرض ملك لإسبانيا.
وفي رحلته بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادي وصل إلى الممر الفاصل بينهما وهو الممر الذي رسمه «جون كابوت»، وثبته في الخرائط البرتغالية، التي سرقها ماجلان وأطلق عليه ماجلان اسمه على أنه هو مكتشفه، وخلال رحلاته لم ينس ماجلان حقده على الإسلام والمسلمين فلم يطأ أرضا بها مسلمين إلا ونكل بهم وعمل على تنصيرهم بالإجبار، حتى وصل إلى جزر أرخبيل الملايو أو «جزر المهراج» كما أطلق عليها العرب المسلمون الذين وصلوا إلى شواطئها كتجار ودعاة، والذين زاد عددهم أكثر بعد سقوط بغداد بيد المغول فهاجر عدد كبير من المسلمين إلى جنوب شرق آسيا خاصة في الملايو وسومطرة وجاوة.
استقر ماجلان في جزيرة «سيبو»، بعد أن اتفق مع حاكمها الوثني «راجا همابون»، على أن يعتنق الديانة المسيحية الكاثوليكية مقابل أن يكون ملكـًا على جميع الجزر تحت التاج الإسباني، وافق الانتهازي «همابون» على شروط سيده الجديد، وأقام نصبًا خشبيًا كبيرًا لعلامة الصليب، وضعه في مكان مرتفع وسط الجزيرة.
ثم أخذ ماجلان يعمل على تمكين حليفه من السيطرة على السكان الأصليين، وتنصير الشعب المسلم، وإجباره على اعتناق المسيحية بالقوة، واشترك مع «همابون» في تحويل عدد من المساجد إلى كنائس، وهدم مقابر المسلمين.
شعر المسلمون أن هذه الحملة ليست كغيرها، تضرب، وتنهب ثم تعود إلى ديارها، إنما غزو عسكري من أجل البقاء الدائم، وكان هذا الشعور كافيًا لإشعال فتيل المقاومة في نفوس سكان الجزر المجاورة، والدعوة إلى التنظيم المسلح، والوقوف بحزم في وجه الطغاة، والبحث عن القائد الشجاع، الذي ينقذهم من هذه المحنة، فوقع الاختيار على الفارس “لابو لابو” وحتى الآن لايزال اسم لابو لابو التاريخي مثيرًا للخلاف ؛ فقد ولد عام 1491 ولا يعرف الكثير عن حياته سوى أنه كان منافسا لــ “راجا هومابون” حاكم جزيرة “سيبو” قبل أن يحكم جزيرة “ماكتان”.
كان لابو لابو أحد اثنين من داتو “سلاطين” الماكتان عند وصول الإسبان الأرخبيل، والآخر كان إسمه زولا، وهما من طبقة الماجينو “طبقة نبلاء”. كان “لابو لابو” يدرس الأرض دراسة المقاتل الخبير؛ فيحفر الخنادق، ويقيم المتاريس والتعزيزات، ويستفيد من الأدغال والأحراش، وكان يقظًا ساهرًا على شؤون رعيته، شديد الحذر عند تنفيذ خططه، التي ما كان يطلع أحدًا عليها إلا عند التنفيذ، كما كان واعيًا لما يدور حوله من دسائس وتحالفات، ويعرف دوافعها وما ترمي إليه، ولا يقع فريسة الخداع والتضليل.
وكانت له عيون تعمل لحسابه في جزيرة «سيبو»، من بينها ابنه «ساويلي»، فاستطاع أن يرصد مخططات الغزاة وتحركاتهم، ويبني استعداداته على المعلومات السرية الدقيقة، التي حملها إليه ابنه؛ فنجح في حشد أعداد كبيرة من المتطوعين، وتمكن من تدعيم نقاط الرصد الساحلية حول جزيرة «ماكتان».
وكان ماجلان قد أرسل رسالة إلى «لابو لابو» وزولا يطلب منهما الاستسلام قائلًا: «إنني باسم المسيح أطلب إليك التسليم ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد»، فأجابه «لابو لابو»: «إن الدين لله وإن الإله الذي نعبده هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم».
معركة ماكتان
بينما وافق زولا على دفع الجزية للملك الإسباني في حين رفض لابو لابو ذلك، فأدرك ماجلان أنه أمام نوعية أخرى من البشر، فبعث له برسالة يتوعده فيها فنظر القائد الإسلامي البطل إلى هذه الرسالة التي تطفح بالعنصرية القذرة، وقارنها برسالة السلام التي جاء بها المسلمون قبل ذلك على يد التجار العرب والدعاة القادمين من الصين وسومطرة، قبل أن يسلم أهل الفلبين طواعية عام 1380، وليس بقوة النار كما أراد لهم الصليبيون، فأعلن الثورة الكبرى على ماجلان في الجزر الفلبينية!
فحشد ماجلان قواته وقرر تأديب لابو لابو حتى يكون عبرة لغيره من الأمراء والسلاطين وفي عام 1521 قاد ماجلان جيشه الضخم. وقام لابو لابو بتشكيل جيشٍ من المدنيين المسلحين بالأسلحة البدائية، كالسيوف والسهام يتكون من 1500 فرد من الأهالي ليحارب به جيش الإمبراطورية الإسبانية، توقفت سفن ماجلان غير بعيدة عن الشاطئ وأنزلت القوارب وعليها الرجال المدججين بالسلاح، في حين وقف أهالي الجزيرة مسلحين باسلحتهم البدائية، واجتاز ماجلان الشاطئ ومعه جنوده المدرعون والمسلحون بالسيوف والسهام والبنادق ظناً منه أن جنوده بأسلحتهم المتطورة ودروعهم سينهون المعركة بسهولة.
أعاد ماجلان عرضه على لابو لابو بأنه لن يمسه بسوء إن أقسم بالولاء إلى راجا هومابون ويخضع لملك إسبانيا ويدفع الجزية، ولكن لابو لابو رفضها مرة أخرى. وطالب لابو لابو ماجلان بالقتال، وفي فجر يوم 27 أبريل 1521 بدأت المواجهة بحذر وتقدم القائد لابو لابو بنفسه في ميدان المعركة، ليقتل كل الحرس الإسباني المحيطين بماجلان وأصيب ماجلان في ساقه بسهم مسموم فطلب من رجاله التراجع فعاد أكثرهم إلا قلة بقيت لحمايته، فأثار ذلك انتباه الأهالي بأن قائد المهاجمين أصيب فتكاثر عليه المهاجمون. حتى قتل أما باقي الجيش فقد هرب إلى السفن التي تنتظرهم.
في حين تقول بعض المصادر أن لابو لابو هو من قام بقتال ماجلان وقتله وذلك حين انقض ماجلان بسيفه – وهو يحمى صدره بدرعه الثقيل – على الفتى عارى الصدر لابو لابو ووجه إليه ضربة، فانحرف الفتى بسرعة وتفادى الضربة بينما الرمح في يده يتجه في حركه خاطفة إلى عنق ماجلان ولكن لم تكن الإصابة قاتلة.
أنتصر المسلمون على الإسبان الغزاة، وهرب من استطاع منهم الهرب بأرواحهم على سفينة واحدة بقيت لهم ليبلغوا الملك الإسباني بخيبتهم على يدي القائد لابو لابو. بعد المعركة وخروج البعثة الإسبانية عادت المياه إلى مجاريها بين لابو لابو وهيومابون الذي كان متزوجًا بالفعل من ابنة أخ لابو لابو. ثم قرر لابو لابو العودة إلى بورنيو ومعه أحد عشر من أبنائه وزوجاته الثلاث، وسبعة عشر من رجاله. ولم يعرف عنه بعد ذلك شيئًا.
إلا أن الإسبان عادوا مرة أخرى بجيوشهم الجرارة إلى الفليبين ولكن هذه المرة بعد أكثر من 40 عام، حين وصلتها حملة ميغيل لوبيز دي ليجازبي سنة 1564 لينصروا بقوة النار بعد ملايين الأرواح التي أزهقوها، ليحولوا عاصمتها من اسم “أمان اللَّه” إلى “مانيلا”، فتحولت الفليبين بذلك إلى الدولة الكاثوليكية الوحيدة في آسيا. وحتى الآن يحترم الشعب الفلبيني شخصية لابو لابو باعتباره أول بطل قومي قاوم الإستعمار الإسباني حيث اشتهر بقتاله ضد ماجيلان في معركة ماكتان، تلك المعركة التي أعاقت بعثة ماجلان وأخرت الاستعمار الإسباني للفلبين 40 عاماً كاملة.
يحترم الفلبينيون لابو لابو باعتباره أول أبطال الفلبين. فقد أقامت الحكومة الفلبينية تمثال تكريمًا له هو في جزيرة ماكتان، وتم تغيير اسم مدينة أوبون في سيبو إلى مدينة لابو لابو. ووضع تمثال له في حديقة ريزال في العاصمة مانيلا، وأيضًا وضعت صورته على الختم الرسمي للشرطة الوطنية الفلبينية. وقد تم وضع صورته على نقد 1 سنتافو عملة الفلبين سنوات 1967-1974.
فيما سرد الأهالي المحبين له الأساطير التي تتحدث عن إنه لم يمت ولكنه تحول لحجر وهو منذ ذلك الحين يحرس بحر ماكتان، ولذلك يرمي الصيادين في الجزيرة النقود على حجر بهيئة رجل كوسيلة لطلب الإذن لصيد السمك بمنطقة الزعيم لابو لابو وتم إنتاج فيلمين عن حياة لابو لابو الأول سنة 1955 والآخر سنة 2002 تمجيدًا لهذا البطل التاريخي، الذي يعد رمزًا لحرية ونضال الشعب الفلبيني.