الفطرة الإيمانية صفة أساسية في النفس البشرية، إنها الجانب الروحي المؤمن بالله فطرة راسخة، مصدرها تلك النفخة من روح الله، والتي تؤكد صلة الإنسان بربه، والتي تحفظ علوه وكماله واستقامته.
قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)) سورة الروم.
وقال تعالى (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)) سورة هود.
وقال تعالى (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)) سورة يس.
وقال تعالى (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)) سورة الزخرف.
أصل البشر آدم عليه السلام فهو أبو البشر، إنسان سوي يحب الخير ويؤمن بالله أودع الله في تكوينه فطرة إيمانية، ثم تناسل البشر من هذه البذرة الطيبة وتعاقبت الأجيال بما تحمله البذرة من صفات الخير والشر.
الفطرة الإيمانية
الفطرة الإيمانية توجه الإنسان نحو بارئه تعلو به للسمو والرفعة، يهفو بها بنظره للسماء يبحث عن آثار مبدعه ويرنو بهذه الفطرة الصافية للتعرف على خالقه، وهي نفسها مبعث كل خير وصدق وأمانة وإحسان بالنفس الإنسانية، إنها وميض كامن خفي في أعماق النفس يشع دائما بنور الإيمان، إنها الحصن المتين الذي تصطدم به دوافع الشر وهي قوة تقاوم بها النفس الهوى، بهذه الفطرة يتصل الإنسان بعالم البقاء وسر الوجود الدائم، بها تميز الإنسان وبها اختصه الله، بها يعلو على نفسه ويعلو على عقله بروحه، فلا يرى غير الفضيلة مبدأ، ولا يختار غير الخير بديلا.
إن الفطرة الإيمانية تؤكد أن الإنسان طيب الأصل نقي السجية سليم الفطرة قويم الكينونة، إنها أصل الصفات الطيبة وهي الأصل في السلوك السوي، أما صفات الشر والهبوط التي قد تطفو على صفحة النفس وتطبع الإنسان أحيانًا وتغاير حقيقته وتشوه فطرته الطيبة، فهي طارئة تلازمه في لحظات ضعفه وغفلته ونسيانه وانقياده، وظهورها يؤكد وهن وضعف قواعد الفطرة الإيمانية وانحراف الطبيعة السوية، وفطرة الإيمان صفة مشتركة بين جميع البشر يحس بها كل فرد في لحظات سكينته مع نفسه.
بها تأهل خليفة لله في الأرض، وبها نال كمال التشريف وأعطي بسببها القدرة على الارتقاء في حب الله وعبادته، فالارتقاء يكون في أعظم معانيه كلما اتصل بمصدر تلك النفخة الإلهية الطاهرة واستمد منها نور الهداية والصلاح، ويهبط الإنسان إلى حضيض مراتب الارتقاء حين يبتعد عن مصدر النفخة.
الفطرة الإيمانية في النفس هي واحة خضراء وافرة الظلال، عطاؤها خير وماءها طهر، هوائها عطر، واردها في حبور، والمستظل بها في سرور، هي الراحة بعد العناء وهي مقام المستعيذ من الرمضاء، والمستجير من لظى القيظ، ساكنها في أمن وأمان وراحة واطمئنان تعطي أكلها كل حين من حلاوة الإيمان، سمات أهلها الوفاء وطويتها النقاء ونفوسهم صفاء إنها جنة الحياة وراحة البدن، وسبيلها هدوء وسكينة، أنهارها حب ورحمة، مائها عذب سلسبيل يروي ظمأ النفس ويطفأ عطش الشهوة، من ارتشف منه لا تلتهب أوداجه بنار الشر.
وأكرر الدعوة وأخاطب الإنسان الطيب على وجه الخصوص، خلقك الله بشراً سوي الطبيعة سليم السريرة نقى الفطرة ووهبك عقلاً وفكراً وإدراكاً وتميزاً وفهماً، ثم بعد كل ذلك تنكر المنعم القادر الوهاب، وتتبع الضلال والبهتان، تؤثر الهوى والكفر مع أن أصل فطرتك الإيمان، أنت كمن يملك جنة وواحة خضراء تسر الناظرين ثم تركها طوعاً وجهلًا وتاه في قفراء الحياة يكتوي بلهيب قيظها ويلهث باحثا عن سرابها. أعمت بصيرته أوهام زيف، كيف لا يكون كذلك فهو تارك جنة النعيم إلى بيداء الجحيم، إنه ظلم الإنسان لنفسه وجهله لحقيقة خلقه وغاية وجوده.
قال تعالى (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)) سورة غافر.
و قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)) سورة فاطر.
وقال تعالى (ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)) سورة الجاثية.
وقال تعالى (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)) سورة الأعراف.
تلك هي الحياة الدنيا دار ابتلاء ودار غرور ودار امتحان، فهل يتذكر ذلك ذوى الألباب، كلا فالإنسان تغلبه الغفلة، ويعميه النسيان، يدرك أن الموت محتوم ولا يعمل لما بعد الموت، يعلم أنه إلى فناء، ويقبل على الدنيا وكأنها البقاء.
يكفر بربه ويجحد نعمه ويخالف منهجه، يقترف الأثام ويتبع الهوى ويؤثر الحياة الدنيا وزينتها. والسؤال هنا .. لماذا يعمل الإنسان الشر وله عقل يدرك به ويميز؟ .. لماذا يكفر بربه؟ .. وله وعي متيقظ وفطرة إيمانية تذكره بخالقه .. لماذا لا يعمله فيما خلق من أجله في معرفة ربه؟ .. أين فطنته وحذقه وحصافته؟ .. لماذا يطمسه ويخصصه لدنياه دون أخرته؟ .. ما أكفر الإنسان وأظلمه .. عنده فطرة طيبة طاهرة ويلوثها بصفات الرجس والفساد ويكفر بالله .. والله غني عن العباد.
يطغى أبن آدم ويفسق .. ولا يعلم أنه لو كفر الناس جميعاً ما نقص من ملك الله شيء. جهل الإنسان صور له أن الله بحاجة لإيمان العبد .. والبعض يعتقد أنه يمن على الله بإيمانه .. فهل بعد الكفر ذنب؟ .. وهل دون جهله جهل؟ .. أيها الكافر .. أنت الفقير الضعيف لله .. فهو القاهر فوق عباده وإن كفروا .. أوجدك بيديه .. ومصيرك إليه .. وأنت المحتاج لعطائه .. وأنت المخلوق وهو الخالق.
قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)) سورة ابراهيم.
وقال تعالى (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) سورة الطور.
وقال تعالى (أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)) سورة الواقعة.
وقال تعالى (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) سورة آل عمران.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)) سورة فاطر.
فطرة الإيمان هي جوهر الإنسان وهي الهداية الدالة، وأعني أنها الدلالة العامة التي تضع الإنسان على مفترق طريق النجاة أو الهلاك، بإرادته يختار بين الضدين ويسلك أحد السبيلين. هي المنبه والواعظ، تبصّر الإنسان بالمصير والمآل، وتنهاه عن طريق الضلال. إنها هداية الإيصال، توصل العبد وتدله على طريق الحق وتعينه علي دفع الشر، إنها الهداية الدالة التي يتعرف بها العبد على ربه وتبقيه على صلة بخالقه تعبداً وطاعةً واستغفاراً.
قال تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) سورة البلد.
وقال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) سورة الانبياء.
وقال تعالى (ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)) سورة الأنعام.
وقال تعالى (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)) سورة القصص.
وقال تعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)) سورة الشعراء.
وقال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)) سورة الإسراء.
اختيار النفس للفطرة الإيمانية الهادية دليل وعي وفهم وإدراك، وانتصار للحق على الباطل وفوز للإرادة وغلبة للعقل، ورجاحة تفكير واتزان طوية. الفطرة الإيمانية كامنة ولا تستحدث أو تكتسب، إنها جزء رئيسي في كيان الإنسان وهي جوهره.