الأنسان مخلوق استدعته القدرة والمشيئة والإرادة الإلهية من العدم لغاية عبادة الله وتوحيده وطاعته فلم يخلق عبثًا، هذا هو التصور الإيماني لمعنى الوجود الإنساني. قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ* وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات:56-58.
والإنسان مخلوق متميز وفريد فى وظيفته وغاية وجوده وفريد في مآله ومصيره، إنه مخلوق غير متكرر وهو مخلوق بقدر لكنه خلق لغاية وهوعبادة الله وتوحيده وخليفته في الأرض وسيداً في الكون. الإنسان من أعظم ما خلق الله لذلك كان من أبدع ما يعرف الله به، فبقدر ما يعرف الإنسان نفسه يعرف ربه، وبقدر ما يجهل نفسه يجهل ربه، وصدقت الحكمة التي تقول (من عرف نفسه عرف ربه).
والإنسان آية عظمى تنطق وتشهد على عظمة الخالق وهو دليل اعجاز فكان لا بد من نظر الإنسان في نفسه، لقد خلق الله الإنسان بيديه وجعل صورته غاية في الجمال والكمال وفى أحسن تقويم، وأهم شيء في الإنسان حقيقة صفاته الأساسية التى لا يمكن تعليلها إلا بأنها قبس من أمر الله، وهى العلم والإرادة والإدراك والتفكير والفهم والتعبير والقدرة.
إن علم الإنسان وفكره وإدراكه وبيانه تدل مباشرة على الله، وكفى بالعقل للإنسان نعمة. قال تعالى: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)) سورة الرحمن.
وقال تعالى (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)) سورة الذاريات.
و قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) سورة التين.
وقال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)) سورة التغابن.
ولفظ الإنسان تلتقي مع الأنس والألفة والمودة، وهي دلالة لغوية أصيلة على نقيض دلالة التوحش، والإنسان لا تكمن إنسانيته في إنتمائه لفصيلة الإنسان، كما أنه ليس مجرد بشر، ولا تعني تلك الدلالة صفته البشرية الأدمية المادية التي تأكل الطعام ويمشى في الأسواق، إنما الإنسان تميز بقدراته وملكاته ومكانته التى اختصه الله بها والتى أهلته لخلافة الأرض وتحمل تبعات وتكاليف منهج الله والأمانة العظمى، فالإنسان هو المخلوق المميز المختص بالعلم والبيان والعقل، وهو من كمال التكريم والتشريف للإنسان من خالقه، تعدّدت مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح، وتنوّعت آيات الأعجاز والقدرة فيه، ومن صفات كمال الله أنّه منزّهٌ عن العبثية؛ فلم يخلق المخلوقات عبثاً ولا لعباً، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)) سورة الأنبياء، ونبّه العباد إلى انتفاء العبث في أفعاله سبحانه؛فقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)) سورة المؤمنون.
قد يهمك: هل يجب عليك الثقة بمشاعر أمعائك؟
وشاءتْ إرادة المولى أنْ يختار الإنسان من سائر مخلوقاته ليكلّفه بمهمّة الخلافة في الأرض وفق مراد الله ومنهجه، ولأجل تمكينه من تحقيق هذه المهمّة العظيمة فقد وهب الله الإنسان القدرات والملكات التى تعينه على حمل تبعات منهج الله والأمانة العظمى، ومن رحمة الله وحكمته أن كلف الإنسان بما يطيق ولم يكلفه بما لا يطيق وذلك عدل من الله ورحمة، وهيأ طبيعته لتكون قادرةً على حمل هذه الأمانة، و الكثيرون من البشر لا يعرفون ولا يعلمون عن الهدف من خلقهم، وما مهمّتهم ودورهم في الحياة، وإني في هذا المقال سوف أتلمس هذه الغاية السامية في خلق الأنسان واستدعائه للوجود من العدم بقدرة الله وعظمته. وقد ناقشتها في كتبي المتواضعة باستفاضة وشمول للمعنى والدلالات العلمية والفقهية والنفسية، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) سورة الذاريات.
وإنّ معرفة الإنسان بالكون من حوله هو أقرب الطرق وأيسرها لمعرفة الله والنظر والتفكر في الكون من حولنا، عبادةً خالصةً لله، فالتعرف على آيات الإعجاز فى خلق الكون ترسخ فى النفس دلائل العظمة والقدرة في الخلق والإبداع، وقلب لا يرى آيات الإبداع في الخلق ولا يتعرف على المبدع قلب أعمى، وآيات الله ساطعة في كل شيء، فكيف للإنسان أن يرى الجمال ولا يعرف خالق الجمال، ومن عاش ناظراً متأملاً مفكراً في آيات الكون من حوله قطعاً ودون أدنى شك سوف توصله تلك الآيات إلى الهداية الدالة، وأنّ سعادة الإنسان أثرٌ حتميٌّ لمعرفة الله وعبادته؛ فكلما زادت معرفة العبد بربّه بالتفكير في أيات عظمته وقدرته زادت راحة قلبه، وطمأنينة نفسه، وأقبل على الحياة بروح التفاؤل ومشاعر الإيجابية.
وقد رفع الله منزلة عباده عن حدود المتطلبات الغريزية كما في الأنعام والبهائم، فكرّمه وأعلى شأنه، وفضّله على كثير من خلقه تفضيلاً، وقد عاب الله على أولئك الذين انحدروا بأنفسهم إلى مستوى البهيمية، فصار همّهم الأكبر إشباع رغباتهم وشهواتهم؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)) سورة محمد، ومن أهم المقاصد التي لأجلها خلق الله الحياة الدنيا أنْ جعلها محلّاً للامتحان والابتلاء، وميداناً للعمل الذي يترتّب عليه الحساب يوم القيامة، قال الله سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) سورة الملك، ومن خلال اختبار الحياة الدنيا تظهر آثار معرفة الإنسان بربّه، وتنكشف درجة إيمانه بالله ويعدّ أهم اختبار للإنسان في الدّنيا هو الامتثال لأمر الله تعالى في مسألة التوحيد والعبادة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) سورة الذاريات، في الحياة الدنيا استخلف الله الإنسان، وجعل غاية الاستخلاف الابتلاء، وموضوع الاستخلاف معرفة الله وعبادته، وجعل العبادة هي العمل وفق منهج الله، ومن تمام عدل الله وبالغ حكمته أن أرسل الرّسل والرّسالات لتبلغ البشر بمنهج الله وتنير لهم طريق الهداية والصلاح وتنذرهم من اتباع طريق الشيطان فهو العدو المبين، ومن مقتضيات العبادة أنْ يعلم الإنسان أنّه مملوكٌ لله ربّه، وأنّه صائرٌ إليه، والعبادة بمفهومها العام هي: اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُرضي الله تعالى، ولذا فإنّ مهمّة الاستخلاف في الأرض داخلة في معنى العبادة، التي هي غاية الوجودالإنساني.
الإدراك والتفكير عند الإنسان
مظاهر تكريم الله للإنسان في وجوهٍ عدّةٍ، لعلّ من أهمّها أكرم الله الإنسان بالخلق والإيجاد من العدم، وجعل استدعائه من العدم استدعاء تشريفٍ وتكريمٍ، حيث كلّفه بمهمّة عمارة الأرض، خلق الله الإنسان على الفطرة الإيمانية السليمة، وهي الإحساس الرّوحي المركّب في تكوينه، والذي من شأنه أنْ يهديه إلى توحيد الله وعبادته، أكرم الله الإنسان بالعقل، وجعله مناط التكليف، فلا تكليف ولا مساءلة لمن فقد عقله، ومن تمام عدله سبحانه أنّه إذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب، والعقل منشأ التّفكير والتّدبر، وأساس الفهم والإدراك، ومحل استنتاج الدلالات واستشراف المقاصد والغايات، وأصلٌ في الاجتهاد والتّجديد، وقد أكّد المولى سبحانه على ربط الحالة الإيمانية بالتّفكير والأدراك والتّدبر؛فقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)) سورة محمد، وبناءً على ذلك كلّه؛ فقد اعتبر الشرع الحكيم عقل الفرد المكلّف هو أداة الفهم للأحكام الشرعية، وسبيل الامتثال لها، وهو مطالب شرعاً ببذل كل ما يطيقه من حدود الاستيعاب والتفكّر في الكون والنفس والشرع، وصولاً إلى ترسيخ الإيمان، وكمال العبادة، وبلوغ مكارم الأخلاق ثم الإحسان والتقوى في عبادة الله والتقرب إليه وطاعته والإمتثال لأوامره ونواهيه.
الإنسان خلق ضعيفاً فى تكوينه المادي وهو من أضعف المخلوقات في هذا الكون، لكنه سيداً بعقله وإدراكه وتفكيره وملكاته وقدراته الفكرية، والإنسان يحس بحقيقة ضعفه في قرارة نفسه ومسيرة حياته منذ بداية خلقه من الماء المهين مروراً بالحمل والوضع والولادة طفلًا ضعيفاً عاجزاً يستمد العون من غيره في تلبية دوافعه في النمو والتطور والحياة، ولا حول له ولا قوة حتى يبلغ مرحلة الرشد والقوة، لكنه فى عنفوان القوة يستشعر الضعف أحياناً عندما يتملكه الإرهاق والمرض والوهن والخطوب والابتلاء، ثم ينحدر مع هضبة العمر فيزداد الشعور بالضعف والوهن مع تقدم مراحل العمر ويرد إلى أرذل العمر حين يبلغ الوهن مبلغه، قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) سورة الروم.
وقال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)) سورة النساء.
لكن الإنسان السوي المؤمن، دائماً يحول ضعفه الى قوة ويستمد قوته من مصدرها الأصيل وهو عون الله وقوته، فالأيمان بالله هو المصدر القوي الذى ليس بعده قوة، يستمد منها القوة ويتغلب بها على ضعفه وهوانه، الإنسان المؤمن دائماً يجعل صلته بالله عوناً وسنداً ووكيلاً ويجعل من الإيمان رقيباً على عقله وإرادته وتفكيره وإدراكه ودوافعه، فالمؤمن عنوان سلوكه وانفعاله السكينة والوقار والهدوء، مطمئنن إلى قضاء الله وقدره مستوثق بعرى الله التى لا تنفصم، لا يستعجل أمراً لأنه متيقنن أن كل أمره بيد الله يدبره كيف يشاء ولا راد لإرادة الله، والمؤمن الحق لدية يقين راسخ أن النفس البشرية ليست في خلوة ولا تغيب لحظة واحدة عن رقابة القبضة المالكة والرقابة المباشرة لخالقها، قال تعالى (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)) سورة الطارق.
وقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) سورة ق.
حسب الإنسان بالفكر يدرك هذه الحقيقة ويستوعبها ويفهمها ويعمل بها بفكر واعى مدرك لحقيقة هذه الرقابة الدائمة لحركة حياته قولاً وفعلاً، وعلى الإنسان أن يستحضر هذه الحقيقة مع كل حركة أو قول يصدر منه، وأن هناك رقيب عتيد يسجل ويحصى على الإنسان كل أفعاله فى كتاب كل مخلوق يلقاه يوم القيامة ويأخذه بيمينه أو شماله ولا يغادر هذا الكتاب صغيرة أو كبيرة الا أحصاها، والحق سبحانه وتالى يطلب من كل مخلوق أن يقرأ كتابه بنفسه كي تكون نفسه حسيباً على ذاتها وهذا تمام عدل الله فلا ظلم في ذالك اليوم، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)) سورة المدثر.
وقال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)) سورة آل عمران.
وقال تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)) سورة الأنبياء.
وقال تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) سورة الإنفطار.
وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)) سورة الحاقة.
قال تعالى (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ﴿41﴾ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴿42﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴿43﴾) سورة النجم.
تلك آيات تذكرة وتنبيه على النفس أن تستحضرها في كل لحظة وحين ولا تغيب عنها كى تبقى في حضرة الله وكلها توجس وحذر وخوف، لكن من يفعل ذلك من البشر، لا لا لا لا أحد.
إن أعظم ما في خلق الإنسان العقل، به شرف الله الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات وبه ألحقه الله بعالم الملائكة وتأهل به لمعرفة خالقة والنظر فى مخلوقاته، بالعقل تحمل الأمانة الكبرى وتكاليف منهج الله، به استنبط العلوم وأدرك مواطن الخير والشر، العقل مدهش ومعجز في ملكاته وقدراته ولا سيبل للإستفاضة فى سردها وتحليلها لكن أوجزها، فالعقل مقر التدبير وفنون العلم والمعرفة وبصائر الحكمة يميز بين الخير والشر ولا نرى فيه سوى مادة هلامية طرية هشة لا نسمع له حساً ولا نجس له مجساً ولا نشم له رائحةً ولا ندرك فيه صورةً أو حدثاً، ومع ذلك فهو آمر مطاع ومفكر ومدرك للواقع منفعل بالأحداث ومشاهد للغيوب ومتوهم للأمور، والعقل يتسع لما ضاق عنه الأبصار وما جهلته الأنفس ويؤمن بما غيبته حجب الله، والعقل مع كل ما أودعه الله به من قدرات وطاقات فكرية وذهنية إلا أنه عاجز عن معرفة نفسه ومقر بالجهل بها، فهو عاجز يريد أن يذكر الشىء فينساه ويريد أن ينساه فيذكره، يريد أن يسر فيحزن ويريد أن يغفل فيذكر، إنه حقاً مغلوب مقهور جاهل بحقائق ما علم ولا يدرى ما مدى صوته وكيف تخرج حروف كلامه ولا كيف يتم اتساق كلامه وبلاغة بيانه ولا كم مدى بصره ولا حدود إرادته وعزيمته، والعقل مع جهله بنفسه عالم يميز بين لطائف التدبير ويحسن تدبير الأمور ويتوهم العواقب والأحداث وهو مورد السلامة، إذا استنار بنور بصيرته الهادية الدالة، وإن استعمل في هوى النفس ونزواتها وشهواتها وأغراضها فقد انحرف عن جادة الحق والصراط المستقيم وسلك طريق الضلال والفساد، لقد ورد فعل العقل في القرآن الكريم بمختلف اشتقاقاته وكلها تدل على التفكير وورد لفظ القلب في القرآن الكريم بمعانى كثيرة والتى يقصد بها عمل العقل وهذه المعانى تدور حول المعنى الوجداني، والعقل هو أساس الفطرة الإيمانية السليمة والعواطف المختلفة مثل الحب والكره، والعقل محل الهداية والإيمان والإرادة والضبط والفهم والإدراك والتفكير.
إن الإتيان بلفظ القلب في القرآن الكريم دائماً يحمل دلالة على ما خفي من الاعتقاد عن الخلق فجاز أن يكون الظاهر من أفعال العبد مخالفاً لما يحويه قلبه، أو أن لا يفعل بالضرورة ما يوافق الاعتقاد الخفي في داخل النفس وجوهرها وهو القلب، لذا وجب أن نفرق دوماً بين المتبادر للذهن عند ورود مفردة القلب – العضلة المستقرة في الصدر – وبين قلب النفس وجوهرها الذي يشارك النفس ذاتها في الخفاء والاستتار.
إن القلب الذي يتبع الفؤاد إنما يتبع الهوى لأنه يهوي به أسفل سافلين، فالفؤاد مصدر الهوى، فإن عرض للقلب أمرين قدم العقل ما يجب على النفس اتباعه، وقدم الفؤاد ما تشتهي النفس اتباعه، فإن أطاع القلب رأي الفؤاد فقد أطاع الهوى وراغ إليه، ومال عن الحق إلى الباطل والشهوات، وإن اتبع العقل فقد اهتدى واتبع الصلاح. ورأي الإنسان وميوله هي إما بدافع الفؤاد وتأثيره؟ أو بدافع العقل وقوته؟ وللقلب بعد ذلك أن يختار منهما ما شاء، إلا أن اتباع العقل لا يورد بإذن الله الإنسان مورد أن يكون نادماً أو متحسراً.
الفؤاد مصدر المشاعر كالغضب والشهوة والحسد والكبر والبغض والحقد وهذا عند كل بني آدم بدرجات مختلفة، ولكن كل الأفعال الناشئة عن تلك المشاعر إنما هي صورة لخضوع القلب للفؤاد، فالمشاعر تنسب للفؤاد ولكن الأفعال تنسب للقلب، فهو صاحب القرار الأخير والفاعل لكل ما يعرض له فمنه تنبت النية، والنفس تأمر بما يحقق هذا الفعل، فأي فعل يتماشى مع دوافع الفؤاد فإنه فعل سوء فإن خالفه العقل فخضع القلب للعقل كانت محصلة الأمر خيراً وصلاحاً.
لذلك نجد أن الله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال إلى القلوب فهي من يتبنى المشاعر فيترجمها إلى أفعال، فإن أخضعها للعقل فقد أفلح وأصاب، أما إن سلمها للعاطفة والفؤاد فقد أخطأ وأساء. فوظيفة العقل بتقييد الفؤاد والإمساك بزمامه هي التي ترسم صفات العبد وشخصيته لدى الخلق وهي حرية بالدراسة والبحث ففيها أسرار للنفس وقد تجلى بعض أسرار النفس وكنهها، وللعقل اسم آخر وهو “الحجر” الذي يحجر الفؤاد عن الانزلاق للشهوة والشذوذ عن حدود الحق، فالإلحاد والكفر هو خضوع لقيم الفؤاد وغياب لقيم العقل، فالكافر يكفر بمالا يدركه بحواسه بالرغم أن العقل يقول بأن إدراك الرب بالحواس أمر لا يستطيع العقل إدراكه، ولأن العقل يقيد الفؤاد عن الجموح والانطلاق خارج القيم العقلية فيحصل الكفر ويحدث الجحود.
الأنسان كائن متميز بفطرته الإدراكية التى تتجلى بمقدرته على البيان واستعداده لبيان مكنوناته النفسية ومشاعره الوجدانية عن طريق الإشارة والحركات والقسمات والملامح والبيان الكلامي والقول والتعبير الذى يعبر به عما في نفسه ويستبين ما لدى الآخرين سماعاً وسؤالاً ونقل ما لديه الى غيره كتابة، والبيان استعداده لنطق الذى به يبين مقاصده ورغباته ويعبر عن كل ما يجول في خاطره وذهنه تارة أدباً وأحياناً كلمة وأخرى فلسفة وطوراً منطقاً، ويكون التعبير إما بهدوء أو بشدة وعصبية أو بعاطفة أو عقل.
ويعرف الاستعداد عند الإنسان بأنه السرعة المتوقعة لتعلم في ناحية من النواحي، ويعتبر الاستعداد مظهر من مظاهر الشخصية الإنسانية، إذا ما عرّفنا الشخصية على أنها التنظيم الكلي للاستعدادات النفسية التى تمييز الفرد.
التفكير والأدراك
كيف يفكر الإنسان؟؟ ما هى التغيرات العضوية التى تحدث داخل الخلية العصبية بالعقل عند التفكير؟؟ كيف يدرك الإنسان الصورة والكلام والأحداث وما الذى يحدث داخل خلية العقل؟؟ ماذا يحدث عضوياً داخل خلية العقل كي يترجم الحواس؟؟ هناك كم هائل من التسائلات والاستفسارات عن عمل العقل كيف يحدث بدون جواب، قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)) سورة الإسراء.
إن القدرة اللغوية هى ما يجعل الإنسان الكائن الوحيد الذى يمكنه أن يفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، وفي الحاضر الحسي وغير الحسي، والإنسان بقدرته على التفكير استطاع أن يسبر أغوار عالم المعرفة والعلوم وأن يكتشف أسرار الكون، وبالفكر الذى موطنه العقل استحق الإنسان لقب سيد الكون، وتعتبر القدرة على التفكير من أهم السمات التى تميز الإنسان وتساعده قدرته اللغوية على الاستفادة من قدرته على التفكير في أن يتعلم ليس من خبرته بل أيضاً من خبرة الآخرين في الحاضر والماضي، وتساعده قدرة التفكير في التنبأ بما يمكن أن يترتب على سلوكه قبل أن يفعله وتعينه كيف يؤديه، والتفكير يرتب له المحاذير والمخاطر والمعوقات في سلوكه، وبالتفكير يستطيع استحضار ما ليس فى عالم الواقع المحسوس أو يتخيله، والتفكير والإدراك عنصران متداخلان فى العقل لأن التفكير ما يجول في فكر الفرد من أمور الحياه في كل المجالات التى تمر في شريط فكره ومخيلته وما ترقبه الحواس وتتفاعل معه في كل لحظة وما تشطح به خيالاته مخترقة حجب المستور وخلف الآمنظور، وبالتفكير تتفاعل المشاعر في النفس وتحدث الأحداث وتجري بها حركة الحياة للفرد، والتفكير محل التمييز بين الخير والشر، وهو صمام الأمان في دوافع الإنسان في كل نزواته وشهواته تضبطها وتلجم عوامل اثارتها ودوافع طفرتها واختيار درجة الأنفعال ورد الفعل، والتفكير هو الحكم على الأمور التى تواجه الفرد في حركة حياته.
إن التشابه بين عمليات الإدراك وعمليات التفكير بصرف النظر عن مادة التفكير أو محتواه يؤكد أن هناك تشابه وظيفي بين التفكير والإدراك، والإحساس هو الخطوة الأولى للإدراك السليم، والإدراك ليس مجرد مجموعة أحاسيس بل هو أكثر من ذلك، فالإحساس هو المنفذ الأول لمعرفة العالم الخارجي حول الجسد، لكن الأمر فى العقل البشري لا ينتهى عند حد الإحساس، ولا يقف العقل جامداً سلبياً عند هذا الحد من الإحساس، بل يتناوله العقل بالتفسير والتأويل ويضيف إليه من خبرته، والأحاسيس في التكوين الإنسانى هو ناتج عن اثارة أعضاء الحس لدى الأنسان مثل السمع والبصر واللمس والشم والذوق، والإحساسات التى تصدر عن هذه الحواس يترجمها العقل بقدرته إلى معانٍ وأفكار وانفعالات، والإدراك هو ربط ما يحسه الإنسان ببعض خبرته الماضية حتى يعطى للإحساس معنى، أليس الفكر هو بوتقة العلم التى انصهرت بها عناصر العلوم والمعرفة فخرجت منها حضارة الإنسان على مر العصور والأحقاب الزمنية وما تضمنته تلك الحضارات من ثورات علمية وتكنولوجية واختراعات وابتكارات لا حدود لها، وهل ما نحن فيه اليوم من التقدم العلمي والتقني ووسائل الأتصال والنقل والأسلحة المدمرة إلا نتاج الفكر الإنساني وثمرة لأتقاد جذوة الفكر وبعد بصيرته وسعة أفقه ورحابة مجالات تطوره وتقدمه وكمال.
وسمو الفكر الإنساني يكون حين ينطلق متأملاً ومفكراً ومتدبراً آيات الله فى الكون وفى مخلوقاته فيدرك الفكر بنور بصيرته الإيمانية عظمة الله خالق كل شيء، لقد أمرنا الله أن نتدبر آيات هذا الكون بالتفكير، وهذا يؤكد تميز الإنسان على سائر المخلوقات بالفكر، لأن أثار الله جلية واضحة في كل شىء ويد الله التى خلقت أرت نفسها في مخلوقاتها، وارادة الله التى خصصت أرت نفسها في مبدعاتها، وحكمة الله ظهرت ولم تخفى، وإن قلباً لا يرى آثار الله في كل شىء قلب أعمى.
وقمة سمو الفكر الإنساني تتجلى حين ينظر ببصيرته الوجدانية الإيمانية فى آيات الله في مخلوقاته ويتدبرها الفكر النوراني ويدركها اليقين الراسخ بعظمة الله ويرى آثار الله ساطعة في كل ذرة وأن كل شىء في الكون ينطق بأن لا اله الا الله الخالق العظيم وأنه مالك الملك.
والعقل البشري وهبه الله القدرة التى يستطيع بها معرفة الله وأن يستدل عليه بالتفكير، وأقرب طريق لمعرفة الله التفكير والتعرف على آثاره، وآثار الله ساطعة في كل ما خلق، ولقد أعطى الله الإنسان قوة الفكر والتصور والخيال وبداهة الشعور، فصار يتذوق الجمال ويسرح بخياله مخترقاً حجب المنظور وحواجز الزمن ويطوف محلقاً بخياله في أرجاء الكون الفسيح.
والإنسان لديه ملكات عظيمة فقد حباه الله القدرة على التذكر فيسترجع لوحات الزمن التى خطها الأحداث والزمن على صفحات ذهنه ونقشت وترسخت بين طيات ذاكرته وسجل مسيرة حياته، وهناك بالعقل جانب الإدراك الواعي والمحسوس الذى يجعله يتفاعل مع كل شيء وينفعل به، فهو يهوى ويحب ويغضب ويكره ويفرح ويحزن، وكل ذلك إبداع مكنون في الوجدان اللامحسوس ظاهراً أو باطناً في النفس البشرية.
إن الفكر الإنساني الذى يرسم الجمال فيبدع ويرى القبيح فيدرك معنى الجمال ويرى في الكون جميل وأجمل وقبيح وأقبح، فالفكر عرف الجميل حين عرف القبح، وعرف الأجمل حين عرف الجميل، أليس ذلك كله من إبداع الفكر الإنساني المدهش، أليس في الفكر الإنساني وقدراته دليل إبداعٍ في الخلق، فلا يفوت هذا الفكر أن يرى الإبداع وأن يتعرف على المبدع أو يعشق الجمال ولا يمتلىء قلب الإنسان بحب خالق الجمال والإبداع والفكر، قال تعال (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)) سورة البقرة، فما أعظم الفكر الإنساني وما أبلغ مداه، هل من حدود لمدى الفكر الإنسانى إلا ما أراد الله أن يغيبه عن هذا الفكر.
إن علم الإنسان وإرادته وقدرته تدل بشكل واضح على تمييزه، والإنسان المفكر هو من استوجب عليه شكر الله على نعمة التفكير التى بها أصبح الإنسان سيداً لهذا الكون وخليفة الله في الأرض، والفاقد لنعمة التفكير شقي فى هذه الحياة، ومنهم مرضى العقل الذين حرموا نعمة التفكير الواعي المدرك فتاهوا وهاموا في ركب الحياة بلا فكر وإدراك، فلا فرق بينهم وبين باقى المخلوقات التى لم يهبها الله نعمة التفكير، والفاقد لقدرة التفكير هو من اختلت في عقله دوافع الضبط النفسي، وفقد القدرة على التمييز بين الخير والشر، ومن تمام عدل الله وكمال علمه أنه أسقط تكاليف المنهج الإيماني عمن فقد عقله، لأن العقل هو مناط التكليف، والله لم يوجب تكاليف منهجه إلا على من كان بالغاً عاقلاً، فلم يوجب تكاليف منهجه على الطفل الذى لم يبلغ الرشد، أو المريض العقلي، أو من كان في غيبوبة.
أليس الإنسان بنعمة التفكير يسعد ويشقى، وهل لنا أن ندرك قدر هذه النعمة ونتوجه بها إلى الخالق العظيم نعبده ونشكره على جميع نعمه ونتقرب إليه عبادةً واستغفاراً وطاعةً ونمتثل لأوامره ونواهيه، فهل بعد نعمة التفكير وما عرفناه من مكانة التفكير فى حياة الإنسان من نعمة، وهل بعد ذلك كله لا يشغل الإنسان تفكيره بحب الله الخالق المنعم وأن لا يشغل تفكيره غير حب الله وطاعته والتقرب إليه دائماً عبادةً واستغفاراً وتوبةً وسجوداً.