لالة فاطمة نسومر “خولة الجزائر”
عندما يُذكر اسم الجزائر، يتذكر كثيرون ثورة المليون ونصف مليون شهيد، أو مقاومة حوالي 10 ملايين شهيد قدموا أرواحهم ودماءهم ثمناً للتحرر من الاستعمار الفرنسي الذي دنّس أرض الجزائر طوال 132 سنة.
ويبقى سجل تاريخ الجزائر مرصعًا بمناضلين ومناضلات، لم يقدموا أرواحهم فقط، بل قدموا الدروس في مقاومة شعب أعزل ضد أعتى قوة استعمارية في القرن العشرين، ولم يقتصر نضال وثورة الجزائريين على رجالهم فقط، فكانت النساء في الصفوف الأمامية التي أرهبت الاستعمار الفرنسي، من بينهم أيقونة النضال جميلة بوحيرد، والشهيدات: حسيبة بن بوعلي، مريم بوعتورة، مليكة بلقايد، وغيرهن.
لكن تاريخ الجزائر، لا يزال يصدح إلى يومنا هذا بأول امرأة جزائرية واجهت وناضلت ضد الاستعمار الفرنسي، وألحقت به هزائم كبرى، وجعلت جنرالات فرنسا يعدون لها جيشًا من 45 ألف جندي.
إنها المناضلة الكبيرة “لالة فاطمة نسومر” الملقبة بـ “خولة الجزائر” نسبة إلى البطلة “خولة بنت الأزور”، والتي تسلحت في محاربتها للاستعمار الفرنسي بالقرآن الكريم، قبل سيفها وجيشها، ولُقبت أيضًا “بأخت الرجال”.
اسمها الحقيقي فاطمة سيد أحمد وكلمة لالة تدل على التوقير. كما أنّها تعني في اللغة الأمازيغيّة السيدة.
ولدت بطلتنا في قرية “ورجه” التي تقع في منطقة القبائل بشرق الجزائر عام 1830، وهي السنة ذاتها التي شهدت احتلال الجزائر، وتنتسب إلى فرع الشرفاء المنحدرين من الأدارسة (المرابطيين)، وقد ترعرعت في عائلة معروفة ومحافظة حيث كان والدها الشيخ محمد بن عيسى يدير الزاوية الرحمانية.
تزوجت لالة فاطمة نسومر وهي في السادسة عشر من عمرها من يحيى ناث إيخولاف، وكان من بني أخوالها، واضطرت للقبول به على مضض بعدما رفضت العديد من الرجال الذين تقدموا لخطبتها من قبل، حين قرر والدها تزويجها، لكنها عندما زُفت إليه تظاهرت بأنّها مريضة، وأظهرت كأن بها مسًا من الجنون، فما كان منه إلا أن أعادها إلى منزل والدها ورفض أن يُطلقها، فبقيت على عصمته طيلة حياتها، وكان يغلب على حياتها مظاهر التنسك، والانقطاع عن الدنيا، والتفرغ للعبادة، وتعلمت العديد من العلوم الدينيّة مما أهّلها لتتولى شؤون الزاوية الرحمانيّة في مدينة ورجة، وكانت تشرف على مدرسة حفظ القرآن الكريم في قريتها.
وعندما توفي والدها وجدت نفسها وحيدة بدون أهل بسبب انعزالها الدائم عن الناس، مما دفعها لترك مسقط رأسها والتوجه إلى قرية نسومر حيث كان يقيم أخوها الأكبر المعروف بسي الطاهر، وتأثرت لالة فاطمة نسومر بأخيها الذي كان يتميز بإلمامه بالعديد من العلوم الدينيّة والدنيويّة، مما جعله يصبح مقدماً للزاوية الرحمانيّة الموجودة في المنطقة الذي عاش فيها، وتعلمت منه العديد من العلوم الدينيّة حتى ذاع صيتها بين معظم القبائل.
وقد لقبت بـ” نسومر” نسبة إلى قرية نسومر التي كانت تقيم فيها. كما ذكرت بعض مصادر أن البطلة كانت تلقب بـ ” لالا نورجة” نسبة للقبيلة التي ولدت بها.
عُرف عن “لالة فاطمة نسومر” كرهها للاستعمار الفرنسي الذي حط بأرض الجزائر محملاً بحقد كبير على الإسلام والمسلمين، ومنذ وهلته الأولى، سعى الاستعمار الفرنسي لاقتلاع الإسلام من عقول وقلوب الجزائريين، لكنه وجد في كل مرة مقاومة كبيرة تصدت لأحقاده.
وقد أعلنت “لالة فاطمة نسومر” الحرب على الاستعمار الفرنسي وهي في “العشرين في عمرها” حيث اتصل بها سي محمد الهاشمي وهو أحد زعماء المقاومة بعدما نجح في الفرار من السجن والإنتقال إلى بلاد القبائل سنة 1849م، وقد إتفق سي الهاشمي مع فاطمة على تنظيم مقاومة مسلحة في القبائل العليا (جرجرة) لإنقاذ المناطق الساحلية والسهلية التي دخلت إليها القوات الفرنسية منذ 1842م، وأخضعت البعض منها مثل: يسر، دلس وبرج منايل، ثم اتصلت بالزعيم الجزائري المقاوم بوبغلة محمد بن عبد الله لتشارك في المعارك التي تُدار دفاعاً عن منطقة جرجرة، حيث شاركت معه في العديد من المعارك.
ولعل أشهر معركة قادتها لالة فاطمة نسومر هي تلك التي خاضتها إلى جانب الشريف بوبغلة في مواجهة الجيوش الفرنسية الزاحفة بقيادة الجنرالين رندون وماك ماهون فكانت المواجهة الأولى بربوة تمزقيدة حيث أبديا استماتة منقطعة النظير، إلا أن عدم تكافؤ القوات عدةً وعدداً إضطر الشريف بوبغلة بنصيحة من فاطمة نسومر إلى الإنسحاب نحو بني يني، وهناك دعيا إلى الجهاد المقدس فاستجاب لهما شيوخ الزوايا فجندوا الطلبة والمريدين وأتباعهم واتجهوا نحو ناحية واضية لمواجهة زحف العدو على قراها بقيادة الجنرالين رندون ويوسف التركي ومعهما الباشا آغة الخائن الجودي.
فاحتدمت المعركة وتلقت قوات العدو هزيمة نكراء، وتمكنت لالة فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي بيدها كما استطاعت أن تنقذ من موت محقق زميلها في السلاح الشريف بوبغلة حينما سقط جريحًا في المعركة وكاد أن يقع في الأسر، وحينها طلب الزواج منها إلا أنّها لم تستطع بسبب بقائها على عصمة زوجها الأول، واشتركت فاطمة في العديد من المعارك التي كانت سبباً في إلحاق الخسائر بالقوات الفرنسيّة، وتمكنت من صد هجوم قوات الاستعمار الفرنسي على قرية “ناث إيراثن”، الأمر الذي شكّل حافزاً كبيراً لأهالي القرى المجاورة وشيوخ زواياها إلى الانضمام للمقاومة.
لقبها الاستعمار الفرنسي بـ “جان دارك جرجرة” لكنها رفضت اللقب مفضلة لقب “خولة جرجرة” نسبة إلى خولة بنت الأزور.
ونظراً لقدرتها الخارقة كما ذكرت الدراسات التاريخية على الخطابة والإقناع، تزعمت “لالة فاطمة نسومر” المقاومة في المنطقة عام 1854، وتمكنت من استقطاب مئات الشباب، وتزامن ذلك مع وصول قوات فرنسية كبيرة. حيث خاضت “لالة فاطمة نسومر” مع جيشها الجديد حرباً ضروساً بعد الزحف الكبير للجيش الفرنسي الذي قاده الجنرال “روندون يتشكرت”، وقد هزمت جيش العدو في معركة بتاريخ 18 يوليو 1854 حيث أرغمت الجنود الفرنسيين على الانسحاب من أراضيها بعد أن خلفوا وراءهم أكثر من 800 قتيل منهم 25 ضابطًا و371 جريحًا كما ذكرت وثائق تاريخية جزائرية.
استمرت بعدها “لالة فاطمة نسومر” في مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وشنت هجمات كثيرة على مراكز وجوده في مناطق مختلفة من منطقة القبائل وحققت انتصارات كبيرة، من بينها معارك “الأربعاء، تخجلت، عين تاوريغ، توريرت موسى، براتن”. فلم تجد القوات الفرنسية المتركزة في المنطقة إلا طلب تقديم مساعدات عاجلة من السلطات الفرنسية، التي أرسلت عدداً إضافياً من الجنود ومن العتاد الحديث، ما اضطر “لالة فاطمة نسومر” وجيشها على الانسحاب التكتيكي إلى قرية “تاخليجت ناث عيسو”.
استغل الاستعمار الفرنسي انسحاب المقاومة، ليقوم بواحدة من أبشع جرائمه في الجزائر، فقام بتدمير المنازل، وارتكب إبادة جماعية بحق سكان عدد من القرى، ولم يسلم منهم حتى الأطفال.
خلال هذه الفترة، تمكنت “لالة فاطمة نسومر” من تكوين مجموعات من المقاومين، عملت على ضرب قوات الاستعمار الفرنسي من الخلف، وعلى قطع طرق المواصلات، ما أدى إلى انقطاع كل أشكال الإمدادات عنها.
بعد ورود معلومات إلى قيادة جيش الاحتلال الفرنسي في مدينة قسنطينة (شرق الجزائر) عن محاصرة “لالة فاطمة نسومر” لجيشه في القبائل وتعرضهم لهجمات كبيرة وخسائر فادحة، قرر الجنرال الفرنسي “روندون” تشكيل أكبر قوة عسكرية لمواجهة “زعيمة المقاومة الجزائرية” قوامه خمسة وأربعين ألف رجل والتوجه إلى مكان فاطمة للقضاء عليها وعلى جيشها المكوّن من سبعة آلاف متطوع من الرجال والعديد من النساء.
وقد قاد الجنرال الفرنسي الجيش بنفسه وتوجه إلى منطقة القبائل، ودخل في معركة كبيرة مع جيش “لالة فاطمة نسومر”، لكن الفارق الكبير بين الجيشين في العدة والعتاد جعل المعركة تحسم للاستعمار الفرنسي.
طالبت “لالة فاطمة نسومر” من الاستعمار الدخول في مفاوضات لوقف المعارك، فوافق على طلبها، بدأ وفد المجاهدين بقيادة السي الطاهر شقيق لالة فاطمة نسومر، مفاوضات إيقاف القتال مع الطرف الفرنسيّ بقيادة الجنرال راندون، واتّفق الطرفان على الهدنة مقابل الشروط التالية:
أن تنتشر القوات الفرنسيّة خارج التجمعات السكنيّة، وأن لا يدفع سكّان المنطقة الضرائب، وأن لا يُحاكم قادة الثورة، والالتزام بحماية الأشخاص والممتلكات، وقد وافق الجانب الفرنسيّ على هذه الشروط.
لكن وما إن غادر الوفد مكان الاجتماع حتّى أمر راندون بإلقاء القبض عليهم، ثم أمر الجنرال “روندون” بمحاصرة المكان الذين كانت توجد فيه “لالة فاطمة نسومر”، وفي 11 يوليو 1857م، ألقي القبض عليها من طرف الجنرال يوسف قائد الحملة في المنطقة والذي نقلها إلى معسكر الماريشال “راندون”، ثم نقلت مرة ثانية إلى زاوية الطاهر بن محي الدين ببني سليمان (قرب تابلاط) بولاية “المدية” (شرق الجزائر) مع 30 شخصاً من أفراد جيشها، خشية تجدد المقاومة في منطقة القبائل الجزائرية، وتم وضعها في سجن تحت حراسة أمنية مشددة، لكن الحقائق التاريخية أكدت أن المقاومة لا تكاد تنطفئ في منطقة حتى تندلع في جهة أخرى من مناطق الجزائر.
بقيت “لالة فاطمة نسومر” في السجن 7 سنوات كاملة، وتوفيت عام 1863 عن عمر ناهز 33 عاماً، بعد إصابتها بمرض غريب أدى إلى إصابتها بالشلل “هل تم تسميمها ؟”، كاتبة بذلك تاريخاً جزائرياً وعربياً مشرفاً للتحرر من الاستعمار، ويوجد قبرها اليوم في مقبرة “العالية” بالجزائر العاصمة، بعد أن قررت السلطات الجزائرية نقله من قريتها “نسومر” عام 1994.
رحم الله البطلة الشهيدة
ملاحظة:
هذه الصورة الوحيدة المعروفة للالة فاطمة بينما هناك صورة متداولة لها تظهر فيها عارية الكتفين والذراعين وربما هي ما روجه لها الاستعمار وهي صورة غير حقيقية لها.
إقرأ أيضًا: الشيخ عز الدين القسام – صفحات من التاريخ – الصفحة الأولى