حرمة قتل النفس البشرية – كتاب الإنسان سافك الدماء
حرمة قتل النفس البشرية من كتاب الإنسان سافك الدماء تأليف دكتور نبيه عبد الرحمن عثمان غانم.
غاية خلق الإنسان العظمى هي عبادة الله وتوحيده، والعبادة متفردة في المعنى والقصد والغاية للإنسان دون غيره من سائر المخلوقات جعلت خلقه في أحسن تقويم في النفس والجسد والكيان والقدرات والملكات والإدراك، كل ذلك تأهل به العقل الإنساني، فهو مناط التكليف ومحل التشريف وحمل الأمانة في منهج الله الإيماني، حين استدعى الله الإنسان للوجود من العدم بقدرته ومشيئته وإرادته.
لو أدرك الإنسان حقيقة دوره في هذا الكون ولم يحاول تجاوزه واتخذ منهج الله دستور حياة واطمأن إلى أن دوره مقدر معلوم من الله بحسب حقيقته في عالم الوجود! لو أدرك الإنسان هذا كله لطمأن واستكان وتواضع وآمن بربه حق إيمان وعاش في أمن وأمان وسلام مع نفسه ومع الكون من حوله وجعل كل جوارحه ونفسه وروحه في استسلام وطاعة وعبادة وتقرب لله خالقه، ونال بذلك خير الدنيا وثواب دار الخلد والنعيم المقيم وحظي برضوان رب العالمين.
الفطرة الإيمانية صفة أساسية في النفس البشرية، إنها الجانب الروحي المؤمن بالله فطرة راسخة، مصدرها تلك النفخة من روح الله، والتي تؤكد صلة الإنسان بربه، والتي تحفظ علوه وكماله واستقامته.
قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} سورة الرّوم.
آدم عليه السلام أبو البشر، إنسان سوي يحب الخير ويؤمن بالله أودع الله في تكوينه فطرة إيمانية، ثم تناسل البشر من هذه البذرة الطيبة وتعاقبت الأجيال بما تحمله البذرة من صفات الخير والشر. والفطرة الإيمانية توجه الإنسان نحو بارئه تعلو به للسمو والرفعة، يهفو بها بنظره للسماء يبحث عن آثار مبدعه ويرنو بهذه الفطرة الصافية للتعرف على خالقه وهي نفسها مبعث كل خير وصدق وأمانة وإحسان بالنفس الإنسانية، إنها وميض كامن خفي في أعماق النفس يشع دائما بنور الإيمان، إنها الحصن المتين الذي تصطدم به دوافع الشر وهي قوة تقاوم بها النفس الهوى.
الفطرة الإيمانية في النفس هي الأصل فالإنسان نقي السجية سليم الفطرة قويم الكينونة، إنها أصل الصفات الطيبة وهي الأصل في السلوك السوي، أما صفات الشر والهبوط التي قد تطفو على صفحة النفس وتطبع الإنسان أحيانًا وتغاير حقيقته وتشوه فطرته الطيبة، فهي طارئة تلازمه في لحظات ضعفه وغفلته ونسيانه وانقياده، وظهورها يؤكد وهن وضعف قواعد الفطرة الإيمانية في تلك النفس وانحراف الطبيعة السوية.
وفطرة الإيمان صفة مشتركة بين جميع البشر يحس بها كل فرد في لحظات سكينته مع نفسه. بها تأهل خليفة لله في الأرض، وبها نال كمال التشريف وأعطي بسببها القدرة على الارتقاء في حب الله وعبادته، فالارتقاء يكون في أعظم معانيه كلما اتصل بمصدر تلك النفخة الإلهية الطاهرة واستمد منها نور الهداية والصلاح، ويهبط الإنسان إلى حضيض مراتب الارتقاء حين يبتعد عن مصدر النفخة.
قال تعالى {هَٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ ۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ (11)} سورة لقمان.
منهج الله للإنسان لعبادة الله هو منهج العدل والاعتدال، دين السلم والسلام، دين المحبة والتقوى، وتعاليم منهج الله شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من اي اعتداء، وتكفل عزته وكرامته. جعل الله للنفس الإنسانية مكانة عظيمة، وأنزل في منهج الإيمان أن إحياء النفس كمن أحيا الناس جميعًا ومن قتلها فقد قتل الناس جميعًا.
قال تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} سورة المائدة.
أي جعل قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس مبالغة في تعظيم أمر القتل بغير حق وظلمًا، وتفخيمًا لشأنها أي كما أن قتل جميع الناس أمر عظيم القبح فكذلك قتل النفس الواحدة يجب أن يكون كذلك فالمراد مشاركتهما في أصل الاستعظام لا في قدره، إذ تشبيه أحد النظيرين بالآخر لا يقتضي مساواتهما من كل الوجوه، ونية الإنسان في الخيرات خير من عمله كما ورد فكذلك نيته في الشر شر من عمله، فمن قتل إنسانًا ظلمًا فكأنما قتل جميع الناس بهذا الاعتبار.
إن قتل الإنسان جريمة كبرى لا ترضى الله تعالى، ولا ترضى الانبياء، ولم تقرها جميع الأديان السماوية التي أنزلها الله على رسله، ومنهج الله في جميع الكتب السماوية الى كافة الناس اتباع منهج الله بتحريم قتل النفس البشرية بدون حق أو فساد في الأرض، فلا يقتلوا نفسًا ولا يعينوا قاتل ولا يشاركوا فيها مهما كان دينه أو طائفته، ومنهج الله يحث عباده جميعاً على البر والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان.
قال تعالى {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ (2)} سورة المائدة.
وفي هذا المقام سنعرض بعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحرم قتل الإنسان.
قال تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} سورة النساء.
قال تعالى {وَٱلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} سورة الفرقان.
قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلْطَٰنًا فَلَا يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا (33)} سورة الإسراء.
قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} سورة المائدة.
تحريم قتل النفس في الأحاديث النبوية الشريفة:
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن رسول الله (ص) قال: “لو أنَّ أَهلَ السَّماءِ وأَهلَ الأرضِ اشترَكوا في دمِ مؤمنٍ لأَكبَّهمُ اللَّهُ في النَّارِ” صحيح الترمذي.
عن عبدالله بن عمر عن رسول الله (ص) قال: “لزوالُ الدنيا أهونُ على اللهِ مِنْ قتلِ رجلٍ مسلمٍ” صحيح الجامع.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن الرسول (ص) قال: “من قتَلَ نفسَهُ بحديدةٍ جاءَ يومَ القيامَةِ وحديدتُهُ في يدِه يتوجَّأُ بِها في بطنِهِ في نارِ جَهنَّمَ خَالدًا مخلَّدًا أبدًا ، ومن قَتلَ نفسَه بسُمٍّ فَسمُّهُ في يدِه يتحسَّاهُ في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مخلَّدًا” صحيح الترمذي.
عن أبو الدرداء وعبادة بن الصامت عن رسول الله (ص) قال: “كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكًا، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِنًا مُتعمِّدًا”. وعن عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم أنَّه قال: “مَن قَتَل مُؤْمِنًا فاغتَبَطَ بقَتْلِهِ لم يَقْبَلِ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا”. وعن أبي الدَّرْداءِ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم أنَّه قال: “لا يَزالُ المُؤْمِنُ مُعْنِقًا صالِحًا ما لَمْ يُصِبْ دمًا حرامًا، فإذا أَصابَ دمًا حرامًا بَلَّحَ” صحيح أبي داود.
لقد شدَّد الإسلام على حرمةِ قتلِ النَّفس لِمَا لهَا من مكانةٍ عاليةٍ لديهِ، ووَضعَ الأحكام والقواعد التَّى تُحافظ عليهَا، وتمنعُ العدوان عليها، فنجدهُ مثلًا يَنفِى عن المؤمنِ إيمانه مُجرد إرادةِ قتلِ أخيه؛ لأنَّ هذا لا يتوافق مع دينهِ “الإسلام“، وإنْ حدَثَ ذلك فإنهُ لا بدّ أن يكونَ نتيجة خطأ لا عَمداً.
قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَـًٔا ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَـًٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْ ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّۢ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} سورة النساء.
إنَّ الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، مهما كانت الأسباب واختلافات وجهات النظر، بل يجب عليه إزالة ما يعرض لأخيه من الأذَى، وأيُّ أذى أشدُّ من القتلِ وهذا يصدق قوله – صلى الله عليه وسلم – عن جرير بن عبدالله قالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ ثُمَّ قالَ: “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ” صحيح البخاري.
فعُلم من ذلك أنَّ القتلَ من الكفرِ العمليّ وأكبر الكبائرِ بعد الشرك بالله. لذَا فإنَّ القتل العمد له الحكم الشديد في الدنيا والآخرة، وأخبرَ سبحانه بأنَّ جزاءه جهنَّم. ولعظمِ قتل النَّفس بغير حقٍّ نجدُ أنَّ القرآن قرنها بالشركِ بالله تعالى، وكل ذلك حرصًا من الإِسلام على سَلامةِ النفوسِ المعصومةِ من الاعتداءز
قال تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٍۢ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} سورة الأنعام.
وأكد النبى – صلى الله عليه وسلم – حرمة دماء المسلمين، وأنها معصومة من الاعتداء، فقال – صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين : “لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ”، وقال – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع : “فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا”، وفى هذا بيان توكيدِ غلظ تحريم الأموال والأعْراض والتحذير من ذلك – ثم قال – صلى الله عليه وسلم -: “ألَا هلْ بَلَّغْتُ”.
ومنعَ – صلى الله عليه وسلم – الاعتداء على المسلم من الناحية المعنوية أو الجسديَّة ، فقال- صلى الله عليه وسلم – : “لا تحاسَدُوا ، ولا تناجَشُوا ، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا ، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا ، المسلِمُ أخُو المسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ ، ولا يَحقِرُهُ ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ، دمُهُ ، ومالُهُ ، وعِرضُهُ”.
وحرمة هذه الثلاثة مشهورة معروفة ومعلومة من الدين بالضرورة، وجعلها لكل مسلم لشدةِ اضطراره إليها ، فالدَّم فيه حياته، ومادته وقال – صلى الله عليه وسلم – : “لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا”.
فالإسلام يَنهى عن قتلِ النفس – أيّ نفس كانت لأن النفس لها مكانة تعادل كل النفوس في حرمة الاعتداء، وضرورة الحفاظ عليها حتى ولو لم تكن مسلمة، فمن استحلَّ قتلها بلا سببٍ أو جنايةٍ فكأنما قتل الناس جميعًا لأنَّه لا فرق عنده بين هذا المقتول وغيره، أي لا فرق بين نفسٍ ونفسٍ، ومن أحياها وحرَّم قتلها واعتقد ذلك، فقد سَلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار.
وهنا نؤكِّد أن الإسلام عَصَم – أيضاً – أنفس المعاهدين والمستأمنين ومن في حكمهم، وأنَّ من أعطاهم الأمان من المسلمين أيّن كان ذاك المسلم وجب عدم نقض هذا العهد والأمان، قال – صلى الله عليه وسلم – : “الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، فمَن أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعليه لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ منه يَومَ القِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ. [وفي رواية]: مِثْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: يَومَ القِيَامَةِ. وَزَادَ: وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بهَا أَدْنَاهُمْ، فمَن أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعليه لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ منه يَومَ القِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ” أخفر أي نقض العهد.
لذا فالحكم على المفسدين والقتلة يتناسب وجرمهم، فكما أن الفساد ضرره شديد وآثاره خطيرة كان الحكم على صاحبه شديدًا ردعًا لمن تسوِّل له نفسه بترويعِ الآمنين والاعتداء عليهم، وقتل النفس – مسلمة أو غير مسلمة – بغير حق إفساد عظيم في الأرض لا يتوافق وديننا الحنيف، دين الإصلاح والإعمار والنهي عن كل فساد قل أو كثر، وهذه دعوة الأنبياء جميعًا.
قال تعالى عن قوم مدين: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85)} سورة الأعراف.
وحَمَل “قابيل” إثم قَتْل “هابيل” وكل نفس تُقتل إلى يومِ الدِّين، لأن قتل النفس عظيم، تغير بعده وجه الأرض فعرف آدم أن شيئًا عظيمًا وقع.
قال تعالى {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلْأَسْفَلِينَ (29)} سورة فصلت.
قالوا من الإنس قابيل فهو صاحب أول معصيةٍ عُصِي الله بها في الأرض، وأول جريمة نكراء بسبب الحسد فكان قتله لأخيه، وفى حديث ابن مسعود – رضى الله عنه – قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إلَّا كانَ علَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها، لأنَّهُ كانَ أوَّلَ مَن سَنَّ القَتْلَ” في الصحيحين بخاري ومسلم.
إنَّ منهج الله مبني على الرفقِ واللينِ، وعدم العنف؛ لذا فليس فيه ما يدعو إلى قتل الأبرياء والاعتداء على الأنفس المعصومة، فقد قال النبى- صلى الله عليه وسلم – لعائشة رضوان الله عنها وعن أبيها الصديق: “يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ” صحيح مسلم، وقال – صلى الله عليه وسلم – : “ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه ، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه” صحيح الجامع.
هذه هي دعوة منهج الله لمن أراد الحقيقة اعتدال وسمو ويسر ووسطية لا تطرّف ولا غلو، منهج الله فرض وأكد على حرمة الاعتداء على الإنسان، بل قل كل الموجودات على الأرض إلا إن وجد السبب، وعلماء المسلمين قديمًا وحديثًا قرروا أنَّ الإرهاب الذى يتمثل في التفجير العشوائي، وسفك الدماء البريئة، وتخريب المنشآت، وإتلاف الأموال المعصومة، وإخافة الناس، والسعي في الأرض بالفساد أمرٌ لا يقرُّه شرع ولا عقل سليم.